نحن نخطئ عندما نضع الصعيد فى سلة واحدة، فننظر إليه باعتباره موطنا لمجتمع واحد، له ثقافة واحدة، ولا يوجد فيه تعدد ثقافي، أو تعدد فى تصورات سكانه للعالم، أو اختلافهم، وتفاوتهم فى النظر إلى بعض الأمور. المجتمع الصعيدى يتكون من وحدات عبارة عن بيوت وعائلات وقبائل، لكن البيوت لا تتطابق، وكذلك العائلات والقبائل، قد تؤمن مجتمعات الصعيد بشكل عام بقيمة معينة مثل قيمة الثأر، لكنها تختلف فى السلوك الثأري، فهناك بيوت تميل إلى القتل الثأرى باعتدال، وبيوت تسرف فى القتل، وبيوت تترك الأمر للسلطة المختصة، وبيوت تميل إلى الثأر الرمزى الذى يقوم على طقوس معينة، تنتهى بالعفو عن القاتل وردم حفرة الدم. البيوت تختلف مثلا من حيث نظرتها للمكانة، ومن هنا تختلف نظرتها للثأر، وإن اشتركت فى نظرة عامة للثأر العائلى بوصفه رأس الحربة فى النظام القبلي. نخطئ حين نضع الصعيد فى سلة واحدة، و نتحدث عن مجتمع الصعيد، وفى الحقيقة يمكننا القول بوجود مجتمعات فى الصعيد لا مجتمع واحد، وقد لا نذهب بعيدا عندما نقول إن القرية الواحدة تحتوى على أنماط مختلفة من البيوت، حيث تتفاوت نظرة كل بيت للأمور، وتختلف فى تقدير رد الفعل الثأرى المناسب، كما تختلف وذلك هو الأهم فى التعامل مع العنف الأول الذى يفتح الباب للثأر. يمكننا وضع الصعيد بين نمطين مختلفين تماما، فهناك نمط عصبى أو متشدد، يتورط فى العنف بشكل سريع للغاية، ويعمل جاهدا على تضخيمه وتوسيع نطاقه، ولا يعبأ بالنتائج مهما تكن، بل يستعجل العواقب الوخيمة، وهذا النمط بطبيعة الحال لا يغير من طبعه عندما يتعرض لعدوان، بل يثيره العنف إثارة بالغة، فيتعصب للعنف المضاد، ويطلبه بإلحاح غاية فى التصلب والتهور، والمبالغة. وهناك نماط متسامح للغاية، لا يتورط بسهولة فى العنف، بل يتعامل معه بمنتهى الحذر ويعمل على وأده مبكرا، ولا يسمح بتضخيمه وتوسيع نطاقه. بين النمطين درجات، وألوان ، ونحن نذهب إلى أن النمط المتسامح هو الغالب فى الصعيد، ويكفى أن ندلل على ذلك بوجود نجوع وقرى لا حصر لها، لا تعانى أزمة عنف كبيرة، أو يظهر القتل فيها بشكل نادر جدا، أو منعدم تماما، أو تخلو بشكل واضح من مظاهر التناحر الثأري. إن الصعيد يتكون من جماعات تجمعها ثقافة مشتركة توحى بوجود مجتمع واحد ، لكن تلك الجماعات فى الحقيقة لا تتطابق، بل تحتوى على نسب متفاوتة من الخصوصية، التى تؤثر فى نظرتها لنفسها، ونظرتها للعالم بشكل عام، وتنعكس تلك الخصوصية على قيمة الثأر، فتظهر تصورات أو مواقف مختلفة من الثأر القبلي، ومن هنا نخطئ عندما نضع الممارسات الثأرية كلها فى سلة واحدة، نتيجة قيامنا بوضع الصعيد كله فى سلة واحدة. إن دراسة ظاهرة الثأر القبلى تحتاج إلى الوقوف عند تلك الخصوصيات التى تلون الجماعات البشرية فى الصعيد بدرجات معينة، تنعكس بالضرورة على نظرتها لقيمة الثأر، الأمر الذى يؤدى إلى ظهور ممارسات ثأرية متنوعة، أو غير متجانسة، أو حتى متناقضة، فتصيبنا كثيرا بالارتباك ونحن فى سبيل فحص الظاهرة فحصا مناسبا. إن الثأر القبلى بشكل عام يتأثرا تأثرا شديدا بفكرة المكانة، فبقدر اهتزاز المكانة يكون رد الفعل الثأري، فالثأر وفق تعريفنا رد فعل على عدوان يستهدف استعادة التوازن. ويعتمد رد الفعل بشكل أساسى على تقدير حجم العدوان، وبالتالى حجم رد الفعل الذى يعيد الأمور إلى مجراها المعتاد. وحجم العدوان يعتمد فى تقديره على حجم المُعتدى عليه، والطبيعى أن يتساوى الناس فى الحجم، لكن الواقع يكشف عن تفاوت فى تقدير أحجام الناس، وهنا يصبح قتل فرد ما مختلفا عن قتل آخر، لأن الآخر يتمتع بمكانة تفوق مكانة ذلك الفرد، وهنا يكمن أصل الانحراف فى الممارسات الثأرية القبلية، وعكس مسارها من حل مشكلة العنف، إلى توسيع نطاق العنف، من هنا يظهر تخلفها قياسا بالأحكام القضائية التى لا تفرق بين إنسان وآخر، فالناس سواسية أمام القانون، أما فى الثقافة القبلية فالناس يتفاوتون، أو يختلفون، فصلة الدم كمبدأ جوهرى فى الثقافة القبلية تعنى أن الأقرب أفضل، وكلما زادت حدة الشعور بتميز الفرد، أو البيت، أو القبيلة، زادت حدة الانحراف فى الممارسات الثأرية. فالخلل الذى يحدث نتيجة العدوان يتم تضخيمه من خلال الذات المتضخمة، وتصبح استعادة التوازن فى نظر تلك الذات تحتاج إلى فعل يتجاوز حجم العدوان، فالصعلوك لا يتساوى بالملوك،. لكن الصعلوك لا يستسلم لذلك الوضع ويصر على كسر أنف الملوك القبلية، هذا هو حال الثقافة القبلية فى الواقع، وهكذا تتعقد الأمور، وتكبر أزمة العنف. وإذا نظرنا إلى مقومات المكانة فى المجتمع القبلى سوف نجدها متنوعة، فالهيبة تتحقق وفق سبل متعددة، وكل سبيل من تلك السبل له خصوصية تلعب دورا فى رسم خصوصية البيت ويختلف نصيب كل بيت من تلك المقومات، أو القوي، ومقدار ما يتوفر لكل عائلة من تلك القوى يلعب دورا فى تشكيل خصوصية تلك العائلة، ويؤثر على نظرتها للعالم، وبالتالى مواقفها من السلوك الثأرى. ما هى القوى التى تصنع الهيبة والمكانة فى الثقافة القبلية، ويمكن رصدها بوضوح فى صعيد مصر الآن ؟ إنها ست قوى تتوزع بدرجات أو نسب مختلفة وهي: 1 القوة العسكرية، والمقصود بها عدد الرجال الذين يصلحون للقيام بدور الجندى بكفاءة، فالجسد الإنسانى الشرس يصنع مكانة وهيبة البيت أو العائلة. 2 القوة الدينية : والمقصود بها اعتماد البيت على رأس مال رمزى يتراكم من خلال علاقة متميزة بالدين، تصنع مكانة وهيبة البيت أو العائلة. 3 القوة المادية : والمقصود بها اعتماد البيت على رأس مال مادى يصنع مكانة وهيبة العائلة . 4 القوة السياسية: والمقصود بها اعتماد البيت على رأس مال رمزى يتمثل فى عدد أفراده الذين يتولون وظائف سياسية أو تنفيذية لها قيمتها فى الجهاز الإدارى للدولة، مثل عضوية البرلمان أو المجالس المحلية، أو العمل فى المؤسسة القضائية، أو الشرطة، أو الجيش، أو أية وظائف مهمة أخرى تصنع مكانة وهيبة للبيت والعائلة. 5 القوة الإجرامية: والمقصود بها اعتماد البيت على عناصر إجرامية لها خصوصيتها فى ظل الثقافة القبلية، وقدرتها على صنع الهيبة والمكانة. 6 القوة التاريخية : والمقصود بها ، الجذور التاريخية للعائلة بما تحوى من أمجاد غابرة أو مستمرة ترتبط بمعارك، أو مناصب، أو قيادة دينية، إلى آخر ما يصنع للبيت تاريخا متميزا يلعب دورا فى صنع هيبته أو مكانته. تلك القوى الست تلعب دورا مؤثرا فى تحديد مكانة وهيبة البيت أو العائلة، وترسم ملامحه فى نظرة أبناء البيت لصورتهم، ونظرة البيوت المجاورة لهم، وقد تتطابق النظرتان، وقد تختلف نظرة أعضاء البيت إلى نفسهم،عن نظرة البيوت الأخرى لهم، اختلافات متفاوتة، يمكن أن تصل أحيانا حد الصدام، فما يراه أحد البيوت بوصفه آية من آيات مجده، يمكن أن يراه بيت آخر بوصفه آية من آيات الخسة والعار. ومن الخطأ النظر إلى تلك القوى باعتبارها حدودا صارمة، تحتمل عبارة إما القوة الدينية، وإما القوة العسكرية مثلا، من الخطأ الظن فى اعتماد البيت على قوة واحدة من تلك القوى فقط، وإن كانت تلك القوى لا تتوزع بعدالة على البيوت، فيمكن أن نجد بيتا يحقق مكانته من خلال كل تلك القوى مجتمعة، ويمكن أن نجد بيتا يعتمد بشكل أساسى على أجساد أعضائه فقط، فتلك القوى تتحرك بنسب مختلفة، فنجد بيتا على سبيل المثال يعتمد فى تحقيق مكانته على الثروة المادية بنسبة 80%، وعلى القوة العسكرية بنسبة 5%، والقوة السياسية بنسبة 5%، والقوة الدينية بنسبة 5% ، والقوة التاريخية بنسبة 4%، والقوة الإجرامية بنسبة 1%، وهكذا. لا توجد لدينا مقومات لتحديد تلك النسب بدقة، وكل ما يمكن التأكيد عليه هو بروز البيوت وفق أعلى نسبة لديها من تلك القوي، فهناك بيت يبرز لقوته الدينية، وهناك بيت يبرز لقوته السياسية، وهناك بيت يبرز لقوته المادية، وهناك بيت يبرز لقوته التاريخية، وهناك بيت يبرز لقوته الإجرامية، وهكذا تتنوع البيوت من حيث علاقتها بمقومات المكانة التى تعتمد عليها، وهذا التنوع ينعكس على نظرتها للممارسات الثأرية، أو يؤثر على طبيعة تورطها فيها، والأهم من ذلك، هو انعكاسه على مشكلة العنف الأول الذى يولد الثأر، فهناك بيوت تتورط فيه بسهولة شديدة قياسا ببيوت أخري، وهناك بيوت تتحكم فيه بمهارة كبيرة، فتمنع بشكل مبكر مشكلة الثأر، أو تتجنبها نهائيا.