الشعور بالصدمة كان واضحا فور تناقل أخبار المشكلة الدموية بين الدابودية النوبية ، والهلالية ، خاصة مع مشاهدة صور القتلى وهي محمولة فوق عربة الكارو ، في مشهد يحيلنا إلى عالم بدائي ، يقع خارج مصر التى نقلت البشرية نقلة مختلفة تماما، عندما قامت بأول ثورة في العالم ضد النظام القبلي ، و أسست أول دولة في التاريخ . الحدث بالنسبة لي لم يكن صادما ، بل كان عاديا جدا ، ومتوقعا ، لأسباب موضوعية يعرفها من يستوعب القبلية ومنظومتها الثقافية ، وفي مقدمتها ثقافة الثأر ، التى تمثل رأس الحربة بالنسبة للنظام القبلي، أو المادة الدستورية الأولي في قانونه غير المكتوب، والمحفوظ جيدا في الذاكرة ، أو المغروس في تكوين الأفراد منذ طفولتهم ، ويحملونه كجزء أساسي من طبيعتهم . المعلومات شبه المنعدمة ، والمشوهة عن طبيعة النظام القبلي، هي سر الصدمة، خاصة مع النظر إلى النوبة باعتبارها مكانا مسالما ، والنظر إلى أهلها كنماذج للطيبة والتسامح ،وهذا في حد ذاته حقيقي ، لكننا نفهمه بشكل مُختزل ، لا يضعه في سياق متكامل ، يستوعب معنى الطيبة والتسامح ، ومعنى العنف ، ومعنى الثقافة القبلية. وأول الأخطاء الناتجة عن النظرة الضيقة ، تتمثل في عدم التمييز بين العنف كظاهرة إجرامية ، والعنف كظاهرة ثقافية . والعنف بشكل عام له خصائص من أهمها العدوى الشديدة ، فالعنف أخطر الأمراض المعدية ، ونحن جميعا أفرادا، ودولا، نصاب بعدوى العنف عندما نتعرض لأبسط أشكاله ، فعندما ينظر أحدهم إلينا باحتقار ، أو يقوم بسبنا، أو لكمنا ، ندخل لعبة العنف فورا ، فننظر إلي ذلك الشخص نظرة مماثلة، وغالبا ما يتضاعف رد الفعل ، لنواجه النظرة السلبية بالسباب ، وهناك مشاجرات كثيرة تحدث بسبب نظرة ازدراء، قد تكون مُتخيلة. والعنف الإجرامي استثنائي ، فالمجرم بشكل عام يشكل استثناء ، وهو مرفوض من الجماعة التى ينتمي إليها الفرد، خاصة في النظام القبلي ، الذي يتعصب للنظام ، ويتفنن في قمع الفوضى. أما العنف الثقافي فهو أكثر انتشارا ، وخطرا ، وهو لا يقتصر على أشخاص بأعينهم يتسمون بالشراسة وغياب الضمير ، بل يعتمد أساسا على أشخاص يتسمون بالطيبة والسماحة !!، لكنهم يتحركون باتجاه العنف عن قناعة عميقة بمشروعيته ، بغض النظر عن صواب تلك القناعة من عدمه في نظر المُراقب ، ومأساة الإنسانية في العموم ترجع إلى هذا العنف ، فهو الذي يبرر الحروب على سبيل المثال، ويضفي عليها قدرا من القداسة، وهي تحصد في طريقها أرواح الملايين!! العنف الإجرامي يهبط إلى أدنى مستوياته في مجتمع النوبة ، الأمر الذي يضفي على ذلك المجتمع حالة واضحة من المسالمة ، أما عندما يتعلق الأمر بمسألة ثقافية فلا مجال للطيبة، وهذا لا يعنى الانطلاق مع العنف إلى نهايته ، بل التصرف وفق النظام الثقافي المتوارث ، وهذا النظام قديم ، لكنه نظام أيضا ، يشمل رد الفعل العنيف ، كما يشمل رد الفعل الذي يحتوي العنف ولا يوسع من نطاقه ، أي أن النظام القبلي كما نؤكد ، لا يشجع على الفوضى بل يحاربها وفق منطقه الخاص . إن ظاهرة الثأر في الصعيد ترتبط في الأذهان بالقتل المضاد ، وهذا نصف الحقيقة، لأنها تقوم أيضا على المصالحات الثأرية كجزء هام من نظام الثأر ، وتلك المصالحات لها أصول ، ويتولاها رجال يتسمون بعلو المكانة في المجتمع القبلي ، ويتمتعون بالذكاء والحكمة ، والخبرة ، ويُعرفون باسم «قضاة الدم» ، ويعاونهم في حل النزاع أشخاص يُعرفون باسم «الأجاويد» ، وللمصالحات الثأرية ترتيبات معينة ، ويطلق عليها اسم «ردم حفرة الدم « ، وهي فن ، وتقوم على طقوس معينة لها دلالتها الرمزية العميقة ، لا يتسع المقام هنا لتناولها، وللأسف لم يقم أحد من الباحثين بدراسة ذلك النظام ، رغم آلاف الرسائل العلمية التى تعالج موضوعات لا نحتاجها . الأمرالذي دفعني إلى العكوف على دراسته منذ سنوات ، وقد أوشكت على الانتهاء من كتاب يتكون من أربعة أجزاء يتناول الثأر في صعيد مصر بشكل يطمح إلى تقديم رؤية متكاملة . عندما نرغب في حل مشكلة قبَلية لا بد من الذهاب إلى منطقها الخاص ، ومن هنا تفشل جهودنا عندما نحاول حلها في إطار نظام مختلف ، كنظام الدولة ، ونحن في الحقيقة أمام مشكلة معقدة ، فهناك نظامان مختلفان يعملان معا ، هناك قائدان لدفة واحدة ، أو على الأصح هناك سفينة نصفها خشبي (القبيلة) وله قائد عرفي مسموع الكلمة ومؤثر جدا، ونصفها حديدي (الدولة) ، والوضع الطبيعي هو غياب النظام القبلي مع ظهور النظام الحديث والأكثر كفاءة ، أما لماذا لم يذهب النظام القبلي حتي الآن فتلك حكاية يطول سردها ، ربما تسمح الظروف بتناولها في فرصة قريبة. ولو نظرنا إلى النوبة سوف نجد الطيبة والسماحة ، والعيش الآمن المستقر ، لكن تلك النظرة ترتبط بالمستوى الإجرامي ، أما على المستوى الثقافي فسوف نجد الشراسة في أعلى حالتها ، لآنها تنطلق من قناعة داخلية بطيبة الهدف ، أو مشروعيته ، ولا أدل على ذلك من موقف النوبة عند فتح مصر ، لقد سيطرت جيوش عمرو بن العاص على مصر بمنتهي السهولة ، وعندما وصلت إلى النوبة ، فشلت تماما في اختراق حصونها وقلاعها البشرية ، وعجزت جيوش عمرو بن العاص عن الانتصار على النوبة تماما ، الأمر الذي فرض تغيير استرايجية المواجهة ، بالبحث عن حل ثقافي بعد فشل القوة القاهرة ، وهكذا انتهت المواجهة بمعاهدة سلام ، تعرف تاريخيا باسم معاهدة البقظ . موقف القبيلة النوبية في المشكلة الأخيرة ليس صادما بالنسبة لنا ، بل هو طبيعي ومتوقع تماما ، وهنا نجد منحة في المحنة ، وهي تبصيرنا بأمور أليمة يمكن أن تحدث في الغد ، مهما كانت المظاهر التى تكشف عن العكس ، المشكلة الأخيرة عرَض صغير وعابر رغم مأساويته، لكن عبوره عارض أيضا ، فجذور المشكلة حية وعفية ، وأصل المرض كامن ، ويمكن أن يبرز عرَض مأساوي آخر في لحظة . نحن للأسف الشديد نربط زوال المرض بزوال عرض من أعراضه فقط ، وتلك ثقافة سلبية منتشرة ، فكثيرا ما يشعر أحدنا بعرض مرضي يستدعي الذهاب إلى الطبيب فورا ، لكن العرض يختفي فنتوهم اختفاء المرض، ولا نذهب إلى الطبيب إلا بعد فوات الأوان. وكما نلجأ إلى وسائل علاجية غير طبية بالمفهوم الدقيق للكلمة، كاتباع وصفة من الوصفات الشعبية، كذلك نفعل عندما نواجه مشكلة مثل مشكلة الدابودية والهلالية ، وعلى سبيل المثال نقوم بإرسال شخصيات محترمة ، إلى مكان المشكلة بهدف تلطيف الأجواء ، وحل المشكلة بشكل ودي ، وهذا خطأ رغم نُبْله، وللأسف نحن نستخدمه كثيرا ، ونتوهم بذلك أننا فعلنا ما ينبغي علينا فعله . والخطأ ينبع من أفكار خاطئة ترسبت لدينا بشكل لا شعوري ، وتتمثل في اعتقادنا بطيبة القبليين التى تتداخل مع السذاجة ، أو ضعف الذكاء ، والحقيقة أن البشر على قدر واحد من حيث الذكاء ، قد نجد تفاوتا بسبب التربية ، لكن الحد الأدني من الذكاء لدى الإنسان العادي يكفي ليجعل منه شخصا ماكرا للغاية ، كما أن المشاعر والأحاسيس تلعب دورا كبيرا لدى القبليين ، ومن خلالها يدركون أمورا كثيرة بشكل مذهل . لقد رصدتُ وقائع كثيرة حضرت فيها شخصيات كبيرة من خارج مكان المشكلة القبلية ، بهدف تلطيفها وحلها ، ورأيت الناس وهم يستقبلون تلك الشخصيات بحفاوة كبيرة، لكنني كثيرا ما سمعت أيضا وفي نفس الوقت سخرية كبيرة من تلك الشخصيات التى أتت «لتضحك على الناس بكلمتين «، وكيف أن تلك الشخصيات العظيمة لا تذكرهم إلا في مناسبات معينة، ولتحقيق أهداف معينة ، وتتركهم في مناسبات أخرى كثيرة ، وهامة بالنسبة إليهم . القبليون في الحقيقة يلعبون مع تلك الشخصيات ، يستمعون إليها باهتمام مبالغ فيه ، لكن كلمة واحدة لا تدخلهم ، ولا تؤثر فيهم ، وهكذا ترجع الشخصية الكبيرة مسرورة بكرم الضيافة ، ولا يخطر في بالها أنها لم تفعل شيئا ، أو أنها كانت مدارا للسخرية . ونظام الخصومات الثأرية خاصة في رؤيته للزمن ، وهي رؤية مختلفة عن رؤيتنا ، يساعد على تلك الخدعة ، فمن أهم قوانين الثأر عدم سقوطه بمضي المدة ، ورد الفعل الفوري ليس مهما في الثأر، وقد يحدث بعد سنوات وعقود. ولا بد من ردم حفرة الدم بشكل حقيقي وفق النظام القبلي، فالثأر لا يسقط إكراما لأحد ، بل وفق أصول وأعراف ، والتسرع ، أو الاستعجال في ردم حفرة الدم خطأ كبير. المشكلة في حقيقتها مشكلة ثقافية وليست إجرامية ، وهنا يظهر وجه من وجوه المنحة في المحنة ، لانها تكشف عن قصور شديد جدا في عمل المؤسسات الثقافية ، وأنشطة وزراة الثقافة مثلا لا تُعد ولا تحصى ، لكنها أنشطة زائفة في الغالب ، ويكفي أن نذكر أن آلاف الندوات والاحتفاليات الثقافية خلت تماما وبشكل مطلق من موضوع القبلية ، أو ظاهرة الثأر في صعيد مصر ، رغم ما تسببه من خسائر فادحة في الأرواح ، فلماذا اختفت تلك الموضوعات من أجندة وزارة الثقافة؟ وهناك إشارة بليغة في مشكلة الدابودية والهلالية ، لا ينبغي أن تُترك ، فالمشكلة بدأت في المؤسسة التعليمية ، ومن خلال الطُلاب ، معنى هذا أن المؤسسة التعليمة تلعب دورا في المشكلة ، ولو نظرنا للمناهج الدراسية لما وجدنا موضوعا عن القبلية ، أو التعصب القبلي ، أو ظاهرة الثأر في صعيد مصر ، فلماذا اختفت تلك الموضوعات الهامة من مناهجنا الدراسية ؟ الحديث عن القبلية والثأر في صعيد مصر طويل ، والموضوع يحتاج إلى بحث علمي حقيقي ، وطرح وإعلامي جاد ، فهل نفعل ما ينبغي فعله ، أم نكتفي بالشعور بالصدمة، والبكاء كما يقال على اللبن المسكوب ، أو مواجهة المشكلة بشكل عشوائي ، وعدم الانتباه إلى أننا نُلدغ من الجحر الواحد مئات المرات .