في العام 1970 قال جان بول سارتر في كراسة سيرته العاشرة : «إن فرنسا تحتاج لخمسين سنة أخري من الصراع علي الأقل لتنتصر قوي الشعب جزئيا». كانت رؤية سارتر الإجمالية أنه إما أن تحكم الاشتراكية وإما أن تحكم البربرية ، لكنه عندما سُئِل : ألم يتحقق شيء في فرنسا يستحق الثناء ؟ قال : بالعكس هناك الكثير مما هو جيد لكننا نطمح إلي مجتمع تُهدَم فيه كل السلطات ليكون الفرد فيه هو السلطة. والحال أنه لم تقع ثورة في فرنسا منذ أن تنبأ بها سارتر ليس لأن الرجل كان قد كُفَّ بصره بالفعل بل لأن فكرة النظام نفسها كانت تمثل حقيقة ملموسة لدي الناس بأكثر مما تمثل فكرة الإرادة الحرة في الفلسفة الوجودية ، لذلك صدق الناس الدولة ولم يصدقوا سارتر. وقد حكي الرجل بنفسه كيف أنه كان يتابع مظاهرة لشباب مدارس الليسيه بمزيد من الانبهار بينما تقف إلي جانبه سيدة تكيل اللعنات علي رءوسهم. وعندما سُئِل سارتر: لماذا لم تحاول إقناعها بما أفنيت عمرك من أجله ؟ قال : لكي تغير شخصا عبر معارف علي هذه الدرجة من التناقض لابد أن تحبه بقوة. إن ما يتحدث عنه سارتر هنا يتجاوز المشهد الفرنسي الذي كان يعنيه بالدرجة الأولي، في وقت كانت تملك فيه الجمهورية الخامسة ما يجعلها محصنة ضد أى هرطقة، وهي الحصانة التي جعلت منها حاضنة لأحدث الصَّرَاعَات في الفكر والفن. وهذا هو الفرق بين ما شاهده سارتر بنفسه في الاتحاد السوفيتي من انحسارٍ دامٍ للحريات وبين ما فعلته فرنسا في سبيل المزيد من التعايش. كانت هذه الأفكار الغاربة ضمن انحسار كبير طرأ علي الوجودية، فلسفة سارتر الرئيسة، لكن الموقف التاريخي لهذا الكاتب الفذ من فكرة الحرية علَّم البشرية كلها. فسارتر، صاحب السيرة الشخصية الفريدة في صرامتها، كان من القوة بحيث تجرأ علي السخرية من البكاء المستمر لأصحاب الحساسية الثورية في القرن الثامن عشر مثل جان جاك روسو وديدرو وجوستاف فلوبير، وهو نموذج للبكَّائين عرفه التاريخ العربي أيضا لدي كثير من شعرائه العذريين ولدي عشرات من فقهائه المتهتكين الذين نعاينهم ونسمعهم حتى أيامنا، بل وعبر عصر بكامله يطلق عليه المؤرخون «عصر البكَّائين» هو العصر الأموي. لكن يبدو من بين أطرف العناوين التي صاغها سارتر ذلك العنوان «عبيط العائلة «، وهو عنوان لكتاب من ثلاثة أجزاء كتبه سارتر عن واحد من أهم الروائيين الفرنسيين هو جوستاف فلوبير، وهو رجل كان ضحية لنزق أمه وقسوة والده فعاش (أخرق) ومات كذلك. كان فلوبير تمثيلا للأمراض العضال التي يمكنها أن تصيب النخبة، فهو الثوري الذي يدافع في الوقت نفسه عن السيادة وحق التملك ورجال المال، وهو الطليعي التقدمي الذي يمكنه أن يدافع عن الهيراركية الكنسية، وهو الرومانسي الذي يبكي لأتفه الأسباب لكنه يكره المرأة ويحتقرها، وهو الذي يعاين آلام الفقراء ويتألم لألمهم لكنه شديد البخل رغم ثروته الكبيرة. ويبدو أن هذا التراث امتد ليصل إلي نخبتنا الثورية التي تستحق عن جدارة لقب «عبيط العائلة «، فهي لم تُشْبِع شعبها بكاءً وعَبَطًا فحسب بل أشبعته كذبا وتهتكا وتناقضا. لقد بلغت تلك التناقضات أعلي درجاتها خلال المشاهد الدامية التي كللت مصر كلها خلال الأيام الماضية. كان المشهد الدامي والمؤسي لوجه ملاكه اسمها «شيماء الصباغ» عنوانا لانتهازية أكثر من سافلة. غير أنه كان من الضروري أن تكتمل صناعة الفاجعة لكي يتم تسويقها علي النحو الذي يضمن تأجيج الفضاء العام ، وهذه هي وصفة الخراب المجربة. في هذا السياق سنواجه بطولات زائفة لآلاف من المتاجرين بدم الشهيدة. فبدلا من الضغط لإنجاز تحقيق قضائي عادل تحت نظر الشعب سنشاهد ديوان المراثي وهو يتمدد ليختصر الأمة ليس في صورة الشهيدة ولكن في بكائيات المتحدثين باسمها، وبدلا من دعوة الدولة لإقرار معاش استثنائي لطفل تركته تلك المغدورة خلفها يسعون لدفع الدولة للوقوف الدائم علي حافة العداء وكأننا نستنفر بطش قوة غازية. وبدلا من الضغط في طريق تعديل أو إلغاء قانون التظاهر ندفع في اتجاه «كسر إرادة الدولة» باختراقات شبه يومية للقانون الذي لا نكف عن مطالبة الدولة باحترامه !! الإدانات نفسها التي شاهدنا هديرها كالسيل المجتاح عند استشهاد شيماء غابت، كعادتها، عندما استشهد عشرات من جنود الوطن وحراسه بغدارات الإرهاب الأسود في تعضيد نادر وقاس للفوضى وتعميم الخراب. فهؤلاء الذين يتحدثون عن صورة الدولة التطهرية العادلة والمستقلة يعضدون، في الوقت نفسه، الخطابات الرجعية المتحالفة مع الاستعمار، والذين يطلقون عناوين براقة من قبيل: «دولة لكل الناس» ربما لا يدركون أن خطابهم الذي يحاول أن يكون عصريا هو نفسه خطاب «اللورد كرومر» الذي توقف أمامه، باستنكار شديد، الدكتور شفيق غربال في كتابه «تكوين مصر». فقبل أكثر من مئة عام ردد كرومر أيضا أن مصر يجب أن تكون لكل الناس بما فى ذلك بريطانيا! ثم أضاف : لكي يحدث ذلك لابد لمصر من قوة تحميها ولتكن هذه القوة هي بريطانيا فكانت بريطانيا وكان الاحتلال، فكيف إذن يمكننا أن نتفهم خطابا كهذا من أناس يتحدثون عن صناعة مجتمع من الأحرار بينما يعملون علي استعادة الرق والعبودية ؟! ربما كان الأدعياء الذين يكتبون عن استشهاد زهرة فجائعية اسمها شيماء الصباغ باعتباره فعلا يجب أن ينتهي إلي هدم الدولة مصيبين فيما يقولون، وربما كان الأدعياء أنفسهم يرون استشهاد جنود مصر ليس أكثر من خطأ وظيفي لا يجب التوقف أمامه سوي بالمزيد من لوم الدولة علي سوء الإدارة، لكن الشعب الذي يري نفسه مضطرا إلي البصق في وجوه هؤلاء محق هو الآخر لأنه يعاين الفجيعة ويعاين مساحات التضليل التي تحيط بها تبريرا أو تزويرا. إننا في الحقيقة نحسن النية بكل هؤلاء عندما نعتبرهم التمثيل غير الدقيق لشخصية «عبيط العائلة». لمزيد من مقالات محمود قرنى