أستاذ دراسات بيئية: الأشجار رئة الحياة، والرئيس أكد أهميتها في خطة التنمية المستدامة    أسعار الدواجن اليوم الجمعة 14 يونيو    خبير: الأشجار رئة الحياة.. والرئيس أكد أهميتها في خطة التنمية المستدامة    سعر الدينار الكويتي اليوم الجمعة 14-6-2024 مقابل الجنيه المصري    محافظة القاهرة تخصص 257 ساحة لأداء صلاة عيد الأضحى المبارك    أسعار اللحوم الحمراء اليوم الجمعة 14 يونيو    الجيش الأمريكى يعلن تدمير قاربى دورية وزورق مسير تابعة للحوثيين    إطلاق 11 صاروخا على موقع إسرائيلي بمزارع شبعا وبلدة المطلة    باحث سياسي: مساعي واشنطن لإنهاء حرب غزة مجرد ورقة ضغط على الفلسطينيين    يورو 2024، موعد مباراة الافتتاح بين ألمانيا وأسكتلندا    الليلة.. انطلاق يورو 2024 بمواجهة ألمانيا واسكتلندا    مصطفى فتحي يكشف حقيقة بكاءه في مباراة بيراميدز وسموحة    «لن نراعيه»| رئيس وكالة مكافحة المنشطات يُفجر مفاجأة جديدة بشأن أزمة رمضان صبحي    نفوق المواشي، آثار حريق زرايب البراجيل (فيديو وصور)    الأرصاد: ارتفاع بالحرارة والعظمى بالقاهرة 43 وجنوب الصعيد 48 درجة    يوم التروية، الحجاج يتوافدون إلى المسجد الحرام لأداء صلاة الجمعة (فيديو)    ضبط عامل استولى على 2.750 ألف من 7 مواطنين فى سوهاج    فيلم شقو يتذيل قائمة الأفلام بدور العرض بعد تحقيق 8 آلاف جنيه في 24 ساعة    أفضل دعاء يوم التروية للمتوفي.. اللهم أنزله منزلا مباركا    السعودية: استخدام أحدث الطائرات لخدمة الإسعاف الجوى خلال موسم الحج    بعثة الحج: حافلات مكيفة وحديثة لتصعيد حجاجنا للمشاعر المقدسة    وزير الصحة يترأس غرفة الأزمات والطوارئ المركزية لمتابعة تنفيذ خطة التأمين الطبي    «صحة البحر الأحمر» تنهي استعداداتها لاستقبال عيد الأضحى المبارك    قيادي بحماس ل سي إن إن: نحتاج إلى موقف واضح من إسرائيل للقبول بوقف لإطلاق النار    سعر الدولار اليوم الجمعة 14-6-2024 في البنوك المصرية    القيادة المركزية الأمريكية: دمرنا مسيرة بحرية وزورقين ومسيرة تابعة للحوثيين    عزيز الشافعي يحتفل بتصدر أغنية الطعامة التريند    تباين أداء مؤشرات الأسهم اليابانية في الجلسة الصباحية    عيد الأضحى 2024| ما حكم التبرع بثمن الأضحية للمريض المحتاج    صلاح عبد الله: أحمد آدم كان يريد أن يصبح مطرباً    هاني شنودة يُعلق على أزمة صفع عمرو دياب لمعجب.. ماذا قال؟    إنبي: نحقق مكاسب مالية كبيرة من بيع اللاعبين.. وسنصعد ناشئين جدد هذا الموسم    للمسافرين.. تعرف على مواعيد القطارات خلال عيد الأضحى    حزب الله يبث لقطات من استهدافه مصنع بلاسان للصناعات العسكرية شمال إسرائيل    ترامب: علاقاتى مع بوتين كانت جيدة    تنسيق مدارس البترول 2024 بعد مرحلة الإعدادية (الشروط والأماكن)    باستعلام وتنزيل PDF.. اعرف نتائج الثالث المتوسط 2024    حاتم صلاح: فكرة عصابة الماكس جذبتني منذ اللحظة الأولى    سموحة يرد على أنباء التعاقد مع ثنائي الأهلي    «زد يسهل طريق الاحتراف».. ميسي: «رحلت عن الأهلي لعدم المشاركة»    الحركة الوطنية يفتتح ثلاث مقرات جديدة في الشرقية ويعقد مؤتمر جماهيري    هشام قاسم و«المصري اليوم»    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 14 يونيو: انتبه لخطواتك    عيد الأضحى 2024| هل على الحاج أضحية غير التي يذبحها في الحج؟    ضبط مريض نفسى يتعدى على المارة ببنى سويف    إصابة 11 شخصا بعقر كلب ضال بمطروح    مستقبلي كان هيضيع واتفضحت في الجرايد، علي الحجار يروي أسوأ أزمة واجهها بسبب سميحة أيوب (فيديو)    حبس المتهم بحيازة جرانوف و6 بنادق في نصر النوبة بأسوان 4 أيام    جامعة الدلتا تشارك في ورشة عمل حول مناهضة العنف ضد المرأة    تحرك نووي أمريكي خلف الأسطول الروسي.. هل تقع الكارثة؟    بعد استشهاد العالم "ناصر صابر" .. ناعون: لا رحمة أو مروءة بإبقائه مشلولا بسجنه وإهماله طبيا    يورو 2024| أصغر اللاعبين سنًا في بطولة الأمم الأوروبية.. «يامال» 16 عامًا يتصدر الترتيب    مودرن فيوتشر يكشف حقيقة انتقال جوناثان نجويم للأهلي    مصطفى بكري يكشف موعد إعلان الحكومة الجديدة.. ومفاجآت المجموعة الاقتصادية    وكيل صحة الإسماعيلية تهنئ العاملين بديوان عام المديرية بحلول عيد الأضحى المبارك    دواء جديد لإعادة نمو الأسنان تلقائيًا.. ما موعد طرحه في الأسواق؟ (فيديو)    نقيب "أطباء القاهرة" تحذر أولياء الأمور من إدمان أولادهم للمخدرات الرقمية    محمد صلاح العزب عن أزمة مسلسله الجديد: قصة سفاح التجمع ليست ملكا لأحد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زمن صناعة الفاجعة
نشر في الأهرام اليومي يوم 04 - 02 - 2015

في العام 1970 قال جان بول سارتر في كراسة سيرته العاشرة : «إن فرنسا تحتاج لخمسين سنة أخري من الصراع علي الأقل لتنتصر قوي الشعب جزئيا». كانت رؤية سارتر الإجمالية أنه إما أن تحكم الاشتراكية وإما أن تحكم البربرية ، لكنه عندما سُئِل : ألم يتحقق شيء في فرنسا يستحق الثناء ؟
قال : بالعكس هناك الكثير مما هو جيد لكننا نطمح إلي مجتمع تُهدَم فيه كل السلطات ليكون الفرد فيه هو السلطة. والحال أنه لم تقع ثورة في فرنسا منذ أن تنبأ بها سارتر ليس لأن الرجل كان قد كُفَّ بصره بالفعل بل لأن فكرة النظام نفسها كانت تمثل حقيقة ملموسة لدي الناس بأكثر مما تمثل فكرة الإرادة الحرة في الفلسفة الوجودية ، لذلك صدق الناس الدولة ولم يصدقوا سارتر. وقد حكي الرجل بنفسه كيف أنه كان يتابع مظاهرة لشباب مدارس الليسيه بمزيد من الانبهار بينما تقف إلي جانبه سيدة تكيل اللعنات علي رءوسهم. وعندما سُئِل سارتر: لماذا لم تحاول إقناعها بما أفنيت عمرك من أجله ؟ قال : لكي تغير شخصا عبر معارف علي هذه الدرجة من التناقض لابد أن تحبه بقوة. إن ما يتحدث عنه سارتر هنا يتجاوز المشهد الفرنسي الذي كان يعنيه بالدرجة الأولي، في وقت كانت تملك فيه الجمهورية الخامسة ما يجعلها محصنة ضد أى هرطقة، وهي الحصانة التي جعلت منها حاضنة لأحدث الصَّرَاعَات في الفكر والفن.
وهذا هو الفرق بين ما شاهده سارتر بنفسه في الاتحاد السوفيتي من انحسارٍ دامٍ للحريات وبين ما فعلته فرنسا في سبيل المزيد من التعايش. كانت هذه الأفكار الغاربة ضمن انحسار كبير طرأ علي الوجودية، فلسفة سارتر الرئيسة، لكن الموقف التاريخي لهذا الكاتب الفذ من فكرة الحرية علَّم البشرية كلها. فسارتر، صاحب السيرة الشخصية الفريدة في صرامتها، كان من القوة بحيث تجرأ علي السخرية من البكاء المستمر لأصحاب الحساسية الثورية في القرن الثامن عشر مثل جان جاك روسو وديدرو وجوستاف فلوبير، وهو نموذج للبكَّائين عرفه التاريخ العربي أيضا لدي كثير من شعرائه العذريين ولدي عشرات من فقهائه المتهتكين الذين نعاينهم ونسمعهم حتى أيامنا، بل وعبر عصر بكامله يطلق عليه المؤرخون «عصر البكَّائين» هو العصر الأموي. لكن يبدو من بين أطرف العناوين التي صاغها سارتر ذلك العنوان «عبيط العائلة «، وهو عنوان لكتاب من ثلاثة أجزاء كتبه سارتر عن واحد من أهم الروائيين الفرنسيين هو جوستاف فلوبير، وهو رجل كان ضحية لنزق أمه وقسوة والده فعاش (أخرق) ومات كذلك. كان فلوبير تمثيلا للأمراض العضال التي يمكنها أن تصيب النخبة، فهو الثوري الذي يدافع في الوقت نفسه عن السيادة وحق التملك ورجال المال، وهو الطليعي التقدمي الذي يمكنه أن يدافع عن الهيراركية الكنسية، وهو الرومانسي الذي يبكي لأتفه الأسباب لكنه يكره المرأة ويحتقرها، وهو الذي يعاين آلام الفقراء ويتألم لألمهم لكنه شديد البخل رغم ثروته الكبيرة. ويبدو أن هذا التراث امتد ليصل إلي نخبتنا الثورية التي تستحق عن جدارة لقب «عبيط العائلة «، فهي لم تُشْبِع شعبها بكاءً وعَبَطًا فحسب بل أشبعته كذبا وتهتكا وتناقضا. لقد بلغت تلك التناقضات أعلي درجاتها خلال المشاهد الدامية التي كللت مصر كلها خلال الأيام الماضية. كان المشهد الدامي والمؤسي لوجه ملاكه اسمها «شيماء الصباغ» عنوانا لانتهازية أكثر من سافلة. غير أنه كان من الضروري أن تكتمل صناعة الفاجعة لكي يتم تسويقها علي النحو الذي يضمن تأجيج الفضاء العام ، وهذه هي وصفة الخراب المجربة.
في هذا السياق سنواجه بطولات زائفة لآلاف من المتاجرين بدم الشهيدة. فبدلا من الضغط لإنجاز تحقيق قضائي عادل تحت نظر الشعب سنشاهد ديوان المراثي وهو يتمدد ليختصر الأمة ليس في صورة الشهيدة ولكن في بكائيات المتحدثين باسمها، وبدلا من دعوة الدولة لإقرار معاش استثنائي لطفل تركته تلك المغدورة خلفها يسعون لدفع الدولة للوقوف الدائم علي حافة العداء وكأننا نستنفر بطش قوة غازية. وبدلا من الضغط في طريق تعديل أو إلغاء قانون التظاهر ندفع في اتجاه «كسر إرادة الدولة» باختراقات شبه يومية للقانون الذي لا نكف عن مطالبة الدولة باحترامه !! الإدانات نفسها التي شاهدنا هديرها كالسيل المجتاح عند استشهاد شيماء غابت، كعادتها، عندما استشهد عشرات من جنود الوطن وحراسه بغدارات الإرهاب الأسود في تعضيد نادر وقاس للفوضى وتعميم الخراب. فهؤلاء الذين يتحدثون عن صورة الدولة التطهرية العادلة والمستقلة يعضدون، في الوقت نفسه، الخطابات الرجعية المتحالفة مع الاستعمار، والذين يطلقون عناوين براقة من قبيل: «دولة لكل الناس» ربما لا يدركون أن خطابهم الذي يحاول أن يكون عصريا هو نفسه خطاب «اللورد كرومر» الذي توقف أمامه، باستنكار شديد، الدكتور شفيق غربال في كتابه «تكوين مصر». فقبل أكثر من مئة عام ردد كرومر أيضا أن مصر يجب أن تكون لكل الناس بما فى ذلك بريطانيا! ثم أضاف : لكي يحدث ذلك لابد لمصر من قوة تحميها ولتكن هذه القوة هي بريطانيا فكانت بريطانيا وكان الاحتلال، فكيف إذن يمكننا أن نتفهم خطابا كهذا من أناس يتحدثون عن صناعة مجتمع من الأحرار بينما يعملون علي استعادة الرق والعبودية ؟!
ربما كان الأدعياء الذين يكتبون عن استشهاد زهرة فجائعية اسمها شيماء الصباغ باعتباره فعلا يجب أن ينتهي إلي هدم الدولة مصيبين فيما يقولون، وربما كان الأدعياء أنفسهم يرون استشهاد جنود مصر ليس أكثر من خطأ وظيفي لا يجب التوقف أمامه سوي بالمزيد من لوم الدولة علي سوء الإدارة، لكن الشعب الذي يري نفسه مضطرا إلي البصق في وجوه هؤلاء محق هو الآخر لأنه يعاين الفجيعة ويعاين مساحات التضليل التي تحيط بها تبريرا أو تزويرا. إننا في الحقيقة نحسن النية بكل هؤلاء عندما نعتبرهم التمثيل غير الدقيق لشخصية «عبيط العائلة».
لمزيد من مقالات محمود قرنى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.