نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1945 هي بداية الحرب الباردة بين العالم الرأسمالي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية والعالم الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي. وقيل إن الذي صك مصطلح الحرب الباردة هو الروائي الانجليزي جورج أورول (1903 1950) في مقال له عنوانه أنت والقنبلة الذرية نشره بجريدة تريبيون. قال: منذ أربعين أو خمسين عاما مضت حذرنا الأديب الانجليزي ه.ج. ويلز ومعه آخرون من أن وجود الانسان في خطر, إذ سيدمر نفسه بأسلحة من صنعه, ويترك المسئولية بعد ذلك للنمل. ثم أشاع هذا المصطلح ولتر ليبمان (1974 1989), الذي كان مستشارا للرئيس الأمريكي وودرو ولسن, في كتابه المعنون الحرب الباردة جاء فيه أن ثمة تناقضا بين الحرية والديمقراطية في العالم الحديث. والسؤال بعد ذلك: ما معني مصطلح الحرب الباردة؟ سلبا يعني عدم المواجهة العسكرية المباشرة بين القوتين العظميين وهما أمريكا والاتحاد السوفيتي لأن كلا منهما لديها أسلحة نووية يفضي استعمالها إلي حرب نووية يكون من شأنها إحداث تدمير شامل. ولكن المصطلح يعني أيضا امكان المواجهة العسكرية غير المباشرة مثل الحرب الكورية (1950 1953) والحرب الفيتنامية (1959 1975) والحرب الأفغانية (1979 1989). أما ايجابا فمصطلح الحرب الباردة يعني المواجهة الثقافية بما تنطوي عليها من فلسفة وعلم ودين. والسؤال بعد ذلك: أيهما أشد فتكا بإحدي القوتين: المواجهة العسكرية أم المواجهة الثقافية؟ افتتحت الحرب الباردة ثقافيا بقصة لجورج أورول عنوانها مزرعة الحيوانات. (1945) وهي قصة ساخرة تستعين بالرموز للسخرية من شمولية النظام الشيوعي في زمن ستالين. ثم أصدر رواية أخري في عام 1948 عنوانها 1984. وهكذا جاء عنوان الرواية معاكسا للسنة التي صدرت فيها ليشير بهذه المعاكسة إلي شيء من التنبؤ عندما تتسم الدولة بالدكتاتورية, إذ النتيجة اذلال الشعب وخنوعه مع انقلاب حاد في القيم بمعني أن الدعوة إلي السلام تعني الدعوة إلي الحرب, والدعوة إلي الحب تعني غسل العقل مع التعذيب, والدعوة إلي حب الأخ الأكبر تعني التحكم في عقل الأخ الأصغر. وفي نفس ذلك العام 1945 عاد الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905 1980) إلي باريس قادما من أمريكا فوجدها مدمرة بفعل المحتل الألماني. وفي العام التالي, أي في عام 1946, وافق سارتر علي القاء محاضرة في جامعة السوربون وكان عنوانها الوجودية نزعة انسانية استغرقت ساعتين بلا توقف. وفيها أعلن أن تغييرا جذريا حدث في فلسفته. فبعد أن كان متشائما قبل الحرب العالمية الثانية أصبح متفائلا إثر انتهائها وذلك بسبب انتصار الحلفاء وتحرير فرنسا. ففي عام 1938 أصدر رواية الغثيان بطلها روكنتان لديه احساس بالاشمئزاز والغثيان لأن الحياة, في رأيه, بلا معني. وهي كذلك لأن الحرية التي يشعر بها الانسان هي حرية لا تدفع إلي الاختيار لأن كل الأشياء متساوية, وهي متساوية لأنها خالية من أية قيمة. ولهذا يصف سارتر هذه الحرية بأنها مجانية, أي أنها تعفيك من بذل أي جهد كما أنها تعفيك من المسئولية, وهذا هو معني الاحساس بالغثيان. وبعد ثلاث سنوات من صدور رواية الغثيان التقي سارتر فيلسوفا شابا أسمر اللون اسمه البير كامي ولد في الجزائر عام 1913 لأب فرنسي وأم اسبانية. وفي عام 1942 أبدي اعجابه بفكرة العبث عند سارتر لأنها كانت تساير أفكاره التي عرضها في كتابه الفلسفي المعنون أسطورة سيزيف. وسيزيف شخصية أسطورية اتخذ منها كامي رمزا لاحساس الانسان بالعبث. وسبب ذلك مرده إلي أن سيزيف استخف بالآلهة فأفشي أسرارهم, وأسرارهم كانت قبيحة فعاقبته الآلهة بأن يستمر إلي الأبد في إصعاد صخرة إلي قمة الجبل لاتلبث بمجرد وصولها إلي القمة أن تسقط من تلقاء نفسها فيضطر سيزيف إلي إصعادها من جديد, وهكذا إلي الأبد. ومع ذلك فقد أصاب الشقاق العلاقة بين الفيلسوفين لسببين. السبب الأول مردود إلي أن سارتر انتقل من الحرية المجانية إلي الحرية الملتزمة, أي التي تشعر بالمسئولية تجاه الآخر. ولما كان الالتزام من سمات الماركسية فقد انحاز إليها سارتر, إلا أن كامي رفض مفهوم الالتزام وتوقف عند مفهوم العبث. والسبب الثاني مردود إلي أن كامي ساوي بين الثوريين الجزائريين وأسيادهم الاستعماريين الفرنسيين فأدانه سارتر. ومن هنا كانت بداية الحرب الباردة ثقافيا والسؤال اذن: ماذا حدث بعد ذلك لمسار الحرب الثقافية؟ المزيد من مقالات مراد وهبة