كان الشيخ محمد عبده يباشر مهامه الإصلاحية في الأزهر و شئون القضاء و الدعوة الاسلامية . لم تكن تلك المهام سهلة ، ففضلاً عن جمود الجامدين ،فإن الدسائس لم تدعه لما يريد من خيرٍ لدينه ووطنه ، فلاحقته المؤامرات في تواصل عجيب و مؤسف. في كتابها الوثائقي القيم عن الأزهر و تاريخ حركة الإصلاح فيه ، تروي الباحثة الأمريكية إنديرا جيسينك Indera Gesink عن أن الدسائس للشيخ محمد عبده – التي وصلت إلى إيغار صدر الخديو عباس حلمي الثاني عليه – حينما لم تصل إلى مبتغاها ، قد تدنّت إلى تلفيق التهم الأخلاقية له من أجل هز صورته ومكانته لدى المسلمين . ففي مارس عام 1902 نشرت المجلة الصفراء «حمارة منيتي» صورة للإمام محمد عبده في حديقة في اوروبا ، تحيط به اربع سيدات و رجل، وصُوّر فيها الشيخ محمد عبده متكئا على سور الحديقة . كانت السيدات الأربع محتشمات – كما يبدو في الصورة الملفقة – لكن بمقاييس ذلك الزمان فقد كنّ في نظر القاريء «عرايا». نشرت مجلة «حمارة منيتي « هذه الصورة و بجوارها أبيات شعر تسخر من صاحبها الكهل الذي لا يليق به ان يمثل الشريعة الاسلامية و عليه ان يترك منصبه و مذهبه و يصير «خواجة «. كان كاتب المقال « محمد أفندي توفيق نسيم » يستخدم أسلوبا فجاً يليق بمجلته المشبوهة و وصف الشيخ الإمام بأوصاف الكبر و الاستعلاء و أنه يلوث سمعة عمامته و أن عصاه لا تصلح إلا للدق على ابواب المساجد كما يفعل السائحون الأجانب ...يريد بذلك أن يحطّ من نصائح الامام محمد عبده بأخذ ما هو صالح للمسلمين من القيم الاوروبية في التعليم و العمل بما لا يتنافى مع الاسلام .. تتبع الباحثة جذور الصورة و القضية ، فتتوصل إلى أن الأمير محمد علي شقيق الخديوي عباس حلمي الثاني قد وضعها بعد «فبركتها» في جنيف - في يد عالم ازهري موتور من الامام محمد عبده ، و اسمه الشيخ حفني المهدي ، ليعطيها بدوره لمحمد افندي توفيق حتى يبدأ حملته في مجلته الصفراء . كما ترجح الباحثة أن ابراهيم المويلحي صاحب جريدة «مصباح الشرق « قد شارك في هذه المكيدة ، و كان يناصب العداء للإمام في جريدته أيضا. فرح توفيق بالصورة و ظن أن السرايا الخديوية ستشكره على ما فعل لنشره هذه الصورة الملفقة ، كما ادعى أن مشايخ الأزهر أصدروا فتاوى يثنون فيها على مجلة «حمارة منيتي» لإحقاقها الحق و نشرها للقيم . لكن بمجرد نشر الصورة و مقالات التهكم ، فوجيء بشيخ الأزهر «سليم البشري » يذهب إلى النائب العمومي و يصر على أن الحكومة لا بد ان تتحرك لصيانة مفتي الديار . لكن الخديو عباس لم يحرك ساكنا للحيلولة دون ذلك ، كما فوجيء توفيق نسيم بأن الشيخ حفني المهدي قد رفض أن يقابله في منزله حتى لا يثير حوله الشبهات باستقبال توفيق افندي «المشبوه « في منزله ... وهكذا أتت الرياح على توفيق نسيم بما لم يتوقعه . حكمت المحكمة على محمد توفيق افندي نسيم بالسجن ثلاثة أشهر للتشهير بمفتي الديار المصرية ،و إغلاق مجلة حمارة منيتي ، وأكدت المحكمة على توفيق نسيم أن يحترم عمله كصحافي و أن يكون قدوة أخلاقية لقراء مجلته .
و هكذا انتهت مؤامرة الخديو عباس حلمي الثاني و الامير محمد علي والشيخ حفني المهدي و ابراهيم المويلحي و محمد توفيق نسيم – كما وصفتها الباحثة «بالمؤامرة المشتركة » ، وختمت تعليقها على هذه الحادثة بأن الخديو وشركاءه كانوا يريدون تلويث سمعته بين الناس لإعاقة اصلاحاته الدينية في مصر على المدى القريب و البعيد .....لكن الله نجاه . رحم الله الشيخ الامام و جزاه خيرا عن اجتهاده و اصلاحه.