جامعة الفيوم تحصل على المركز الأول فى الرسم الزيتي بمهرجان الأنشطة الطلابية الأول    تطورات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والجيل الخامس يناقشها الخبراء مايو المقبل    تراجع أرباح شيفرون كورب خلال الربع الأول    "بحوث البترول" يعقد برنامجا تدريبيا حول الجيوكيمياء العضوية العملية    بالانفوجراف| الحصاد الأسبوعي لوزارة الزراعة    طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي شرقي لبنان    مفاجأة سارة لنادي مازيمبي الكونغولي قبل مواجهة الأهلي    رضا العزب: شيكابالا مش أسطورة    إصابة 3 أشخاص فى تصادم سيارة بدراجة نارية في بنى سويف    في ذكرى ميلاد الراحلة هالة فؤاد.. لماذا حاول أحمد زكي الانتحار بسببها؟    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «الصحة»: إجراء الفحص الطبي ل 1.68 مليون شاب وفتاة من المقبلين على الزواج    أرتيتا: لاعبان يمثلان صداع لي.. ولا يمكننا السيطرة على مانشستر سيتي    مصدر أمني: استمرار الاتصالات مع إسرائيل للوصول لصيغة هدنة بغزة    رحلة فاطمة محمد علي من خشبة المسرح لنجومية السوشيال ميديا ب ثلاثي البهجة    تامر حسني يبدأ تصوير فيلم «ري ستارت» في مايو    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة الجونة للإسكواش ويستعد لمواجهة حامل اللقب "على فرج"| فيديو    خبراء الضرائب: غموض موقف ضريبة الأرباح الرأسمالية يهدد بخسائر فادحة للبورصة    والدة الشاب المعاق ذهنيا تتظلم بعد إخلاء سبيل المتهم    وفد جامعة المنصورة الجديدة يزور جامعة نوتنجهام ترنت بالمملكة المتحدة لتبادل الخبرات    تربية طفولة أسيوط تنظم مؤتمرها الدولي "الموهبة والذكاء الاصطناعي"    عاجل| مصدر أمني: استمرار الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي للوصول لصيغة اتفاق هدنة في غزة    الآلاف من أطباء الأسنان يُدلون بأصواتهم لاختيار النقيب العام وأعضاء المجلس    أسعار الذهب فى مصر اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    خطيب «الجمعة» من العريش: حسن الخلق أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة    وزير التنمية المحلية يعلن بدء تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال العامة    مزارع يقتل آخر في أسيوط بسبب خلافات الجيرة    مدينة أوروبية تستعد لحظر الآيس كريم والبيتزا بعد منتصف الليل (تعرف على السبب)    سكاي: سن محمد صلاح قد يكون عائقًا أمام انتقاله للدوري السعودي    وزارة الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة 3 مايو    إيرادات الخميس.. شباك التذاكر يحقق 3 ملايين و349 ألف جنيه    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    «التعليم» تستعرض خطة مواجهة الكثافات الطلابية على مدار 10 سنوات    الناتو يخلق تهديدات إضافية.. الدفاع الروسية تحذر من "عواقب كارثية" لمحطة زابوريجيا النووية    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    خطيب الأوقاف: الله تعالى خص أمتنا بأكمل الشرائع وأقوم المناهج    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    قافلة جامعة المنيا الخدمية توقع الكشف الطبي على 680 حالة بالناصرية    طريقة عمل ورق العنب باللحم، سهلة وبسيطة وغير مكلفة    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية بالعاصمة الإدارية    مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. في القاهرة والمحافظات    الإسكان: تنفيذ 24432 وحدة سكنية بمبادرة سكن لكل المصريين في منطقة غرب المطار بأكتوبر الجديدة    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    اتحاد جدة يعلن تفاصيل إصابة بنزيما وكانتي    عرض افلام "ثالثهما" وباب البحر" و' البر المزيون" بنادي سينما اوبرا الاسكندرية    سميرة أحمد ضيفة إيمان أبوطالب في «بالخط العريض» الليلة    احتجت على سياسة بايدن.. أسباب استقالة هالة غريط المتحدثة العربية باسم البيت الأبيض    تشافي يطالب لابورتا بضم نجم بايرن ميونخ    أمن القاهرة يكشف غموض بلاغات سرقة ويضبط الجناة | صور    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    زيلينسكي يدعو إلى الاستثمار في صناعة الدفاع الأوكرانية    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟    أطفال غزة يشاركون تامر حسني الغناء خلال احتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندمااخذتنى دينا الى المشرحة
نشر في الأهرام اليومي يوم 30 - 01 - 2015

أنا . نعم أنا . أنا الذي دفنت كثيرا من الشهداء في الحرب . انتظرتهم وهم يكفنون في مشارح المستشفيات،ثم حملتهم الى مقابر الشهداء في «الخفير».سجلتُ اسماءهم وفصلتُ متروكاتهم ،
لأسلّم الشخصية منها الى ذويهم بعد أن تسكت المدافع. .أنا الذي دفنت أيضا كثيرا من أصدقائي وأمي وأقربائي .. نعم أنا الذي فعلت كل هذا،لم أقو على الدخول مع دينا المشرحة.كانت قد عادت بعد فترة اختفاء قصيرة،ولم تتح لي الفرصة لأسألها عن أي شىء، وكان صدرها يعلو ويهبط بسرعة واضطراب،وبدت وكأنها على وشك الاختناق.فهمتُ على الفور،فهذا هو حالها عندما تعاودها آلام انتزاع الجناحين من جسمها.أخبرتني في الطريق فقط ان علاء وأبانوب وكريم السيد في المشرحة.واستغرقت وقتا لأفهم ماتقصده. لم ترد علّي عندما سألتها عن الاسماء التي ذكرتها وهل هم أصدقاؤها.وفجأة أدركت أن وجود هؤلاء الثلاثة في المشرحة يعني أنهم شهداء،فقد مضى على مجازر محمد محمودعدة أيام منذ بدأت الاشتباكات في أوائل فبراير.
واصلنا طريقنا.كانت عيناها لامعتان مبللتان.هي إذن لاتعاني فقط من آلام انتزاع جناحيها،بل أيضا تعاني من فقدها لأصدقائها الشهداء.وضعتُ يدي على كتفها وضممتها لي ونحن نسير، فاستسلمت وتركت كتفها يستريح قليلا في صدري.أشرتُ لتاكسي وذهبنا الى مشرحة زينهم.
أعرف رائحة الموت جيدا،ولطالما خبرتها على مدى العقود الماضية،تلقفتها على الفوروتعرّفت عليها ونحن نهبط من التاكسي.كان الأهالي في كل مكان،النسوة والبنات أغلبهن فقيرات بالملابس السوداء،انخرطن في البكاء والصراخ على الشباب الذي قتل في الميادين والشوارع بالرصاص الحي،أما الرجال والشباب فكانوا يضجّون بالزعيق وهم يدخنون ويلوّحون ويتدافعون هنا وهناك.كانت الرائحة منعقدة في الجو مثل غيمة،رائحة الموت ممتزجة برائحة الأهالي.
تلقّت دينا من تعرفهم بالاحضان وهي تبكي صامتة إلا أن جسمها كان يرتجف .لم أكن أعرف أحدا من أصحابها،وفي الوقت نفسه كنت أعرفهم على نحو ما،ملامحهم مألوفةبالنسبة لي،بنات وأولادمرهقون ولهم رائحة عضوية قوية،توقفوا عن البكاءبعد أن احتقنت عيونهم وتحجرت. نعم تحجرت.كانت عيون قاسية تحدق فيك دون أن تراك.
جاء من الداخل شاب يركض صارخا:
«عايزين محامي .. الجثث جوّه بتتبصّم على محاضر شهادات مسجلين خطر .. عايزين محامي .. محامي بسرعة.. ».
في لحظة، كانت دينا تجّرني وهي تركض لنلحق بمجموعة قليلةاتجهت الى ممشى مجاور،وعندما أدركتُ اننا في الطريق الى باب المشرحة الخلفي، تخلصتُ من يدهاووقفتُ في مكاني.أشرتُ لها برأسي بما يعني أنني لن أستطيع أن أدخل معها،فاستدارت تجري نحو زملائهاوتركتني. فكرتُ فيما قاله هذا الشاب منذ لحظات ، واصطحب معه عددا من الشباب الى الداخل. لم يكن من السهل تفسير ماقاله أو فهمه،ومع ذلك لم يكن هناك إلا تفسير واحد :إنهم يزوّرون المحاضر والتقارير بكل الطرق الفاضحة . إنهم يغيّرون بصمات الشهداء ويحولونهم الى مسجلين خطر. بدا الأمر غامضا بالنسبة لي مع هذا، لكن المؤكد أن العبث داخل المشرحة فاق التصور والفهم.
كنت أعرف الكثير من مصائب وكوارث الطب الشرعي منذ تقرير خالد سعيد الشهير قبل الثورة، والمذكور فيه أن خالد لم يمت نتيجة التعذيب والضرب الوحشي من المخبرين،بل من لفافة بانجو انحشرت في زوره، لما حاول ابتلاعها حال القبض عليه. وكنت أعرف أيضا ان كثيرا من جثث أطفال الشوارع الذين ماتوا أثناء الاشتباكات قد اختفت من المشارح. وهناك أيضا حملة»هانلاقيهم»التي شكلّها النشطاءللبحث عن المفقودين،ووفّقت الحملة بالفعل ،وعثرت على عدد من الذين كانوا في عداد المفقودين داخل المشارح بالمصادفة ،ولولا تعرّف أهلهم عليهم لدفنوا في مقابر الصَدَقة.وكانت دينا قد حكت لي أن هناك واحدا اسمه مالك عدلي،دخل الى المشرحة مع زملائه،وكان يضع أصبعه في جرح كل شهيد حتى تكتب التقارير على نحو يحفظ لكل شهيد حقه في أن يكون شهيدا ،لأن الفارق بين الجرح القطعي وإصابة الرصاص هو مرور الأصبع في الجرح،وهو العمل الذي كان وكيل النيابة المكلف بكتابة التقارير يرفض القيام به. وكنت قد تعرفتُ على مالك هذا حينما أصيبت دينا بطلقة خرطوش في جفن عينها اليمنى في مذابح محمد محمود الأولى ،بينما كان مالك قد أصيب إصابة مباشرة في عينه وفقدها .التقينا عند الطبيب نفسه الذي كان متطوعا لعلاج مصابي الثورةهو ومستشفى العيون الذي يملكه.
وجدتني أقف وحيدا في الممشى.كنت مرتبكا وحريصا على ألا تلتقي عيناي بتلك العيون المحيطة بي.بحثتُ عن علبة سجائري في كل جيوبي ولم أجدها.فكّرتُ في استكشاف المكان الذي لم أره من قبل.كانت البوابةالتي دخلنا منها عريضة واسعة،وبعدهاهناك مبنى من عدة طوابق، ثم مبان داخلية قريبة من بعضها البعض .سمعتُ ولدا صغيرا يقول للبنت الواقفة بجواره:
«الشهدا كانوا كتير .. من شويه المشرحة طلبت مننا نعلن عن التبرع بتوابيت لنقل الشهدا..»
كانت البنت أكبر منه بعدة سنوات،وأسرعا مبتعدين عني في اتجاه الممشى المؤدي للباب الخلفي للمشرحة.لم يتح لي أن أسمع رد البنت عليه،إلاأنني كنت أرى حركة شفتيهاوهزات رأسها المتتابعة.واصلت طريقي،وكان الزحام يزداد على البوابة،واضطررت لاستخدام يدي الاثنتين وأنا أتملص محاولا الخروج.تذكرتُ ان دينا لاتزال بالداخل ، ومع ذلك واصلت طريقي.
وفيما بعد ستحكي دينا لي إنها ما أن دخلت المشرحة حتى هبّت رائحة المسك.مسك الشهداء لاتشبهه أي رائحة. مسك الشهداءيغمرك ويفيض عليك.حكتْ لي أيضا أنها رأت شهداء يبتسمون،وشهداء على وشك الابتسام،وآخرون ماتت الابتسامة على شفاههم، لكنها لم تصادف أبدا شهيدا واحدا أغمض عينيه على إحساسه بالرعب،كلهم،كل الشهداء،كما قالت لي دينا كانوا في طريقهم للجنة.
لم يخرجوا من مشرحة زينهم وحدها ،خرجوا أيضا من مشرحة المستشفى القبطي ومستشفى الدمرداش وقصر العيني وسيد جلال وأم المصريين والساحل والخليفة ومعهد ناصر.كلهم طارت بهم النعوش الى ميدان التحرير،لكنهم كانوا أسرع من نعوشهم، فطارت أجسامهم وشاهد الجميع أطراف أكفانهم وهي ترفرف في الهواء حتى استقروا في الميدان، ومالبثت نعوشهم أن لحقت بهم، وانطلق الجميع في مظاهرة ضخمة شقت المدينة.
...........................................................
مجتزأ من متتالية قصصية يعكف الكاتب عليها


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.