تمارس جيهان الأعصر شعائر الصوفية بروح فنان عاشق للحب و الجمال. الولوج إلى داخل عالمها المخملى يبدو و كأنه محاولة لاقتحام حكاية من ألف ليلة و ليلة. هنا فى مركز زينب الثقافى حيث يقبع مكتبها الخاص تسيطر روح من الخشوع على المكان : ضوء خافت منبعث من القناديل يختلط بأريج العود المتصاعد من مبخرة عتيقة بينما تتربع صورة الشيخ الذى تتلمذت على يديه على احد الجدران. منذ الوهلة الأولى تستشعر انك أمام سيدة صوفية من طراز خاص فهى تحمل سيجارتها فى يدها اليمينى فى حين تعبث أصابع اليد اليسرى دون توقف فى حبات مسبحة. ترتدى الجينز الغربى و تى شيرت محلاة بالخط العربى بينما تترك خصلات شعرها تنسدل خلف غطاء رأس كالتى ترتديه الفلاحات فى الحقول. تمارس اليوجا و التأمل لكن كمران للروح خلال الطريق الصوفي. « هكذا أنا» توليفة إنسانية مختلفة الأطوار لكننى أجد انسجاما تاما بين تلك الآفاق المترامية للنفس البشرية. أعشق قراءة القرآن و التجول فى ربوع سطوره لاستشعر الجمال الفنى و الأدبى للآيات. قد أبدو بالنسبة للمتدينين التقليديين نموذجا غريبا للتدين لكننى أعتقد أننى وجدت الطريق السليم فى تربية الروح و تهذيب الأخلاق، فالله عندما أراد أن يصف لنا النبى فى كتابه العزيز قال «و إنك لعلى خلق عظيم» ( سورة القلم الآية 4 ) هكذا تقول جيهان الأعصر، المخرجة السينمائية التى قامت بإخراج 7 أفلام تسجيلية و 4 روائية حيث كانت قضية المرأة و الصوفية تشكل محورا رئيسيا فيهم.
تباين المظهر الخارجى لتلك المخرجة الأربعينية يعكس أيضا تباينا فى التنشئة الروحية بينما ثمة خيط رفيع يربط بينهم. فتلميذة مدارس الراهبات تؤكد أنها عرفت مبكرا عشق السيدة مريم العذراء و هو نفس الشعور الذى خالجها عندما ذهبت فى طفولتها لزيارة السيدة نفسية « تعلمت فى مدرستى حب الصالحين على اختلاف عقيدتهم و مللهم. و لم تكن الصورة التى نسجتها فى خيالى عن السيدة نفسية تختلف كثيرا عن تلك التى كنت أراها للسيدة العذراء فى بهو المدرسة التى كنت ادرس بها.. « تستطرد الأعصر مستشهدة بأبيات من الشعر الصوفى كى تلخص فلسفتها الخاصة « لقد تسللت السيدة نفيسة إلى قلبى عن عمر ثمانية أعوام و تعودت منذ ذلك الوقت أن أتردد على ضريحها. و قد ترسخت العلاقة مع الأيام لا سيما فى أوقات الأزمات. هكذا تمضى جيهان التى جسدت فى عمل فنى أخير بعنوان « مكتوب عن الحب» المشوار الذى يقطعه الصوفى فى مراحل العشق الإلهى و حب آل البيت. وهى اليوم لا تتردد أن تحمل حقائبها لمئات الكيلومترات لتحضر مولد السيد البدوى بطنطا أو إلى قنا لإحياء ليلة مولد سيدى عبد الرحيم القناوى حيث تتشكل و تتبدل أجندتها الأسبوعية و الشهرية طبقا لتلك المواسم الصوفية لكن تظل جلسات الذكر التى تتردد عليها كل يوم خميس بمحافظة الشرقية هى موعد ثابت له قدسية خاصة.
جيهان الأعصر فى الواقع التى تنتمى للطريقة الخليلية هى واحدة من سيدات القبيلة الصوفية الممتدة و التى قد يصل عدد أفرادها إلى 15 مليون صوفى (بالإضافة ل15 مليون محب) تمثل النساء أقل من النصف بنسبة قليلة، طبقا لتصريحات الشيخ محمد الشبراوى شيخ الطريقة الشبراوية. و رغم أن المرأة كان لها باع كبير فى التاريخ الصوفى على غرار السيدة رابعة العدوية ، السيدة مريم البصرية و السيدة لبابة المتعبدة، لكن اليوم تبرز فى الأفق نماذج جديدة تعيش التصوف بروح الحداثة.
تقول نجوان هلال، مرشدة سياحية، التى تتبع الطريقة الشبراوية « أشعر أننى لست حبيسة داخل صندوق مغلق كما هو حال المرأة لدى بعض التيارات الدينية الأخري. فالصوفية تساعدنى على الإنتاج و الإبداع فى عملى فضلا على أنها منهج قديم لكنه يتسم بالتطور و المرونة. فعندما كنت أذهب مع الأجانب فى جولات سياحية كان كثيرا ما يبادرونى بأسئلة لم أكن أجد لها إجابات مقنعة بخصوص المرأة التى ترتدى النقاب الأسود فى أجواء حارة مثل مصر و كيف لا تعيقها تلك الثياب عن الحركة و المشاركة المجتمعية « تصمت نجوان و تنتفض واقفة عندما يلج الشيخ الشبراوى إلى داخل القاعة و لا تتحدث إلا بإذن منه كنوع من التأدب فى حضرة هذا العالم، على حد تعبيرها. ففى رحب الصوفية تعلمت أن اضع أرضية مشتركة مع الآخرين و أتفهم اختلافهم و تلك هى أفضل الوسائل لقبول هذا الآخر و التعايش معه.
وتجد رشا الشهيد، ثلاثينية، محاضر ومدرب فى التنمية الذاتية و البشرية, علاقة وطيدة بين الصوفية و مجال عملها. فمشايخ الصوفية خلال رحلتهم فى تطوير العابد يدعونه على تأجيج روح التفاؤل واكتساب العزيمة و شحذ الهمم. وهى طرق حديثة فى مجال التنمية البشرية. لكن ثمة سؤال يطرح نفسه : رغم أن الصوفية تضرب بجذورها فى المجتمع المصري، هل وجدت بعض النساء فى هذا المنهج طريق الخلاص بين مطرقة التيارات المتشددة التى تهمش دور المرأة و سندان المتطرفين من العلمانيين الذين قد يتناسون الحاجة للغذاء الروحي؟
اشرف الشريف، باحث فى التيارات الإسلامية و محاضر فى الجامعة الأمريكية يؤكد أن ثمة حراك يحدث داخل الجماعة الصوفية. فقد ظهرت أنماط جديدة للتصوف منذ حوالى عشر سنوات بدأت تستقطب فئة المثقفين. وقد بدأ هذا التوجه يكتسب أرضية بصفة خاصة فى العاصمة و المدن الكبرى -و إن احتفظ الريف بصوفيته التقليدية- لا سيما و أن خطاب هذا الاتجاه لا يركز على الشكل الخارجى للمرأة فقط لكنه يتعدى ذلك إلى التطور الروحى و النفسى لها و يتيح لها أيضا مساحة أكبر فى الحركة و المشاركة.
لكن يواجه أنصار هذا التوجه الحداثى بعض الانتقادات. فهند السيد، مصممة أزياء ثلاثينية لم تنج من استهجان المحيطين بها عندما خلعت حجابا ارتدته دون اقتناع حقيقى لمدة 17 سنة و ذلك بعد عام من دخولها الطريقة. و هى تقول « لم أسلم من نظرات من حولى بدءا من أسرتى الصغيرة حتى البقال الذين كانوا يتعجبون لكونى تخليت عن غطاء الرأس بينما أصر على التسبيح و تلاوة الأذكار و كانوا يرون أن ذلك يشكل نوع من التناقض. بل ان البعض ذهب لأبعد من ذلك و كان بعض الصديقات يتهكمن على و يطلبن منى أن اعرفهن بالشيخ الذى يفتى بنزع الحجاب. لكننى كنت دائما فى حالة مراجعة مع الذات و خلصت إلى نتيجتين مهمتين الأولى هو فرغم لا أقحم أحد بعلاقتى مع ربى أما الثانية رغم إننى لا أرفض الحجاب كفريضة لكننى ارفض ان ارتديه كى لا أكون مختلفة عن الآخرين أو لا البسه و أنا متجهمة أو متذمرة. فكيف أقدم طاعة لله و أنا على هذا النحو»تمضى هند مؤكدة أنها لفظت من حياتها كل من حاول أن يفرض عليها شكلا ثابتا أو تقليديا فى علاقتها مع الله.
البعض يذهب لأبعد من ذلك و يعتبر هؤلاء فتنة على الدين لان هؤلاء المتصوفات قد يصبحن بدورهن نموذجا للنساء الأقل حظا فى التعليم بينما هن يبدين نوعا من التفريط إزاء ارتداء الحجاب الشرعي، على حد تعبير غادة محمد، مترجمة تتردد على الصالونات الدينية السلفية فى حين تروق لوالدتها مجالسة صديقاتها المتصوفات و هو ما يجعل بينهما إشكالية لا تنتهى.
وبين من يرون فى هذا التوجه الجديد انحرافا عن الطريق السليم وبين من يؤيدونه يعتقد الشيخ احمد عبد الحليم الذى بصدد إجراء رسالة ماجستير فى الأديان المقارنة، أنه لابد من تقييم هذا النموذج بشكل انتقائى و نقدى قد يكون تمسك الصوفيات الجدد بالأذكار و بحب الله و الرغبة فى التقرب منه و الحرص على مكارم الأخلاق مظهر إيجابى أما عدم ارتداؤهن الحجاب فهو شكل من أشكال التقصير. لكن لا يجب قط التشدد معهن إلى درجة تكفيرهن. فهناك عابدة صالحة لكنها مقصرة فى احد الفروض. « هناك فرق كبير بين التقصير و الكفر. فإغلاق أبواب الرحمة فى وجوههن قد يدفعهن للانتكاس و ربما يكون من الأفضل التعامل معهن وفقا للآية الكريمة «و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» هكذا يختتم الشيخ حديثه.