كان مفترضا نشر هذا المقال/ البيان ضد الاستبداد العلمانى، عقب الأول ضد الاستبداد الدينى، ولكن أخذنا الحدث الفرنسي بعيدا عنه، قبل أن تعيدنا إليه الذكرى الرابعة لثورتنا المجيدة، التى تكالب عليها أعداؤها، ولكنها ستبلغ غاياتها، بمنطق التاريخ ودهائه، الذى يفوق مكر الماكرين، وحقد الكارهين، حيث الحرية، التى رفعت شعاراتها، روح العالم وأثير التاريخ. كان الفيلسوف هيجل قد ذهب، محقا، إلى ذلك المعنى، حينما ربط بين الحرية وبين الإنسانية، فالحرية هى حركة الروح على طريق الوعى بالذات، ومن دونها يتحول الإنسان إلى جسد محض، شىء يمكن استعماله، ما يحيله عبدا يمكن امتلاكه. العبودية هنا ليست هى الرق الموروث من عصور قديمة، حينما كان الجسد يباع ويشترى صراحة، بل صارت أشكالا عديدة يزخر بها عالمنا الحديث، حيث تباع الأرواح وتشترى الضمائر وتُسلع القيم. حاول هيجل أن يفسر مفارقة العبودية والسيادة، فأرجعها إلى تلك اللحظة التى عجز فيها إنسان عن مقارعة آخر أقوى منه، رفع السيف فى وجهه، فالعبودية للسيد أصبحت بديلا عن الموت بالسيف، وهو الاختيار الذى ساد جل التاريخ الإنسانى، حيث الوجود أمر بيولوجي، فأن تكون موجودا يعني أن تكون حيا وفقط، قبل أن تولد حساسية جديدة تمنح للوجود جوهرا سيكولوجيا، فلا يكون الإنسان موجودا ما لم يكن حرا، على نحو أفضى إلى ميلاد ثنائية حديثة تفترض التناقض بين طرفى معادلة: الحرية الموت، بديلا عن الثنائية الموروثة التى كانت تفترضه بين طرفى معادلة: الحرية العبودية. لا تعنى الثنائية الحديثة أن يموت غير الحر بيولوجيا، قتلا أو انتحارا، بل يموت نفسيا وأخلاقيا، عندما يعجز عن تمثل أعظم ما فيه، وهو ملكاته الإبداعية الحرة، فالموت هنا ثقافى/ حضارى، ولهذا فإن الأحرار فقط يتقدمون، وغيرهم يتأخرون، يموتون يوما بعد يوم من الفقر والجهل والمرض، مصفدين بأغلال الاستبداد. وفى المقابل تؤكد تلك الثنائية أن الحرية لا يمكن أن تكون طرفا نقيضا للأمن فى معادلة سياسية صحيحة، فالحرية محض ثمرة للأمن، فإن لم يتحقق الأمن ماتت الحرية تحت سنابك قانون الغاب وشريعة القوة وروح البداوة الهمجية. وإذا وجد الأمن من دون حرية فلا قيمة له، إذ لا فارق جوهريا بين أن يقتلك اللص، أو ينقذك منه الشرطى، فارضا عليك الحياة فى كهف خشية لص آخر، ففى كهف الخوف يتساوى الوجود مع العدم، وتتماهى الحياة مع الموت. وللأسف فإن ما يجرى اليوم فى مصر، بعد ثورتين أزيقت فيهما دماء ذكية، وأزهقت أرواح طاهرة، إنما هو تلك المبادلة القاصرة بين الأمن والحرية: إما.. وإما؟. وهنا يتعين علينا أن نطرح أسئلتنا على دائرة الحكم التى لم تصبح نظاما بعد: لماذا ثرنا وما الذى حصدنا، وما الطريق إلى المستقبل، وهل هو معبد بالحرية المؤسسة على أمن شامل عميق، سياسي واجتماعى واقتصادى ونفسى، أم هو الأمن وحده، فى طبعته السياسية، وصياغته العارية؟. إذا كان الأمن وحده هو حلمنا فقد كان متحققا أكثر مما هو الآن فى عهد مبارك غير الميمون، فلنعتذر للرجل إذن ونعيده لمجابهة الإخوان والإرهاب بحكم ميزته النسبية الوحيدة، خصوصا وقد عادت أبواقه القديمة تنعق فى كل مكان، وتخون كل حر. إما إذا كانت الحرية حلمنا ومطلبنا، فليس الطريق الذى نسير فيه الآن هو الأسرع فى الوصول إليها، ولا المستقيم فى التوجه صوبها، حيث البعض من نخبة 25 يناير النشطة لا يزال خلف القضبان، وزبائن النظام السابق عليها صارت خارجه، بينما يدخل القسم الأكثر أصالة من نخبة 30 يونيو تباعا إلى دائرة الشك وفلك الاغتراب، بعد أن تم تجفيف منابع السياسة، وتراجعت التعددية، وانبرى القسم الأكثر زيفا ونفاقا من رجال كل العصور فى حرب إعلامية غايتها التكفير السياسي، والإقصاء الوطنى. وفى موازاة ذلك تُجرى محاولات يائسة لقولبة البرلمان القادم، فى هيكل أحادى يقوم علي بنائه رجل كبير كانت له أدوار مشهودة فى الماضى، ولكن الزمن تجاوزه، بينما الأجيال الجديدة، التى صنعت الفوران الكبير لا تزال معطلة، إذ لم تتعلم الدرس بعد، ولم يستسن إدخالها إلى بيت طاعة جديد، يضبط حضورها المستقبلى بميزان حساس، يدعوها حين يكون ولاؤها مضمونا للتصفيق، ويستبعدها حينما تلوح بوادر استقلال ومخاطر تمرد، لأننا دائما فى تلك اللحظة الصعبة التى لا يجب أن يعلو فيها صوت على زئير المواجهة مع الإرهاب أو الإخوان. إنها استعادة كاملة لما كان قائما، تشى بعجز فاضح فى فهم السياسة وممارستها، يؤدى إلى تفريغ الشارع من كل المكونات الحية، والفاعلين الجدد الذين دخلوا إلى فضاء المشاركة، التى اعتبرت بدورها أبرز مكاسب 25 يناير. ما تشى به التجربة الإنسانية، ويكاد ينطق به التاريخ، أن المتطرفين والظلاميين، لايعيشون سوى فى الكهف، وأن مقتلهم الحقيقى هو نور الحرية، فإذا ما فتحت الشبابيك، ودخل الضوء مات الظلامي مثل فطر، وهرب المستبد مثل جبان. أما محاولة اختطاف الوطن، وتحقير الحرية، بحجة الأمن أو بقوة القمع، فمصيرها الفشل. حدث ذلك سلفا للشيوعية السوفيتية، والنازية الألمانية، والفاشية الإيطالية.. وسوف يحدث تاليا، حيثما تنفى الشعوب إلى كهوف الاغتراب، وتجبر على الاختيار القاصر بين الأمن والحرية. وما نرجوه اليوم أن لاتكون مصر مثالا جديدا لهذا البؤس التاريخى، فالجماهير التى هجرت الشارع محبطة، والقوى المدنية التى عطلت فعاليتها مجبرة، هى الرصيد الحقيقى لحكم الثلاثين من يونيو، ومادام أنها همشت أو أحبطت، فالأكثر احتمالا أن تعود من جديد فى صور معادية للحكم القائم فى لحظة بذاتها لم تتوافر معطياتها بعد، ونخشى أن تتراكم تلك المعطيات وصولا إلى لحظة انفجار لا نتمناها لهذا الوطن. لمزيد من مقالات صلاح سالم