عندما ينظر الإنسان إلى حياتنا بصفة عامة يجد أن منهج التفكير العلمى والثقافى قد توقف واستبدل بآليات وأساليب جديدة تراجعت بنا إلى مؤخرة الصفوف والقوائم فى التصنيف الثقافى والعلمي. يأتى ذلك رغم ما لنا من جذور علمية وثقافية عريقة ضاربة فى جذور التاريخ، بنت قديما أمة عظيمة. ولأن هذه ظاهرة خطيرة لما لها من أضرار جسيمة على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية تعود بالدولة إلى الخلف فإننا نتناولها فى هذا التحقيق بهدف العودة إلى طريق العلم لتنهض الأمة ويتمتع الشعب بحياة طيبة يسودها العلم والتنمية ونصبح رقما صحيحا بين شعوب العالم، ونتقدم ونتطور يوما بعد يوم. يصف الدكتور أحمد على عثمان، أستاذ العلوم الانسانية بالجامعة الأمريكية، الحياة قديما فيقول: ظلت مصر حتى قبل دولة الرعامسة فترة طويلة تدرس الطب والجغرافيا فوصلوا إلى التحنيط ومغارب الشمس ومشارقها وأذهلوا العالم آنذاك بحضارتهم وعلمهم وآثارهم تشهد لهم على تحضرهم، وكما أسهمت المسيحية فى حضارتنا، وشيدت كنائس وحفظت مصر الإنجيل، ورفعت ذراعيها بعد ذلك حامدة لله مبتهلة بدخول الإسلام إلى أرض مصر و أسست أول جامعة إسلامية فى العالم، وهى جامعة الأزهر الشريف، الذى كان منارة للعلم والعلماء وحفظ الدين والقرآن. وظل الأزهر سنين طويلة يُدرس وسطية الإسلام والمذاهب الفقهية المختلفة، وبعد ذلك وللأسف الشديد ظهر على الساحة من أصحاب البضاعة المزجاة قليلو البضاعة وقليلو الفهم يريدون أن يسطوا بفكرهم على العقول، لا يعرفوا حقيقة الدين وحقيقة العقل والعلم وساد الخوف الجميع وتراجعوا إلى الخلف، فتفشى الجهل بين الناس وسيطرت عوامل غير جيدة منها حب الذات.، بالاضافة إلى ما تبثه وسائل الإعلام فى هذا الزمن من محتوى علمى وثقافى ضحل وأفلام هابطة وأغان وبرامج لا تسعى إلى غرس القيم والفضائل وتقليص مساحة الندوات الفكرية والثقافية، وكذلك المنتديات والجلسات العلمية وتراجع مستوى المناهج فى كل المراحل التعليمية،. وقد كان لذلك كله الأثر الأكبر فى هبوط المستوى العلمى والثقافى. وللخروج من الأزمة والعودة إلى منهج التفكير العلمى ، يطالب الدكتور أحمد على عثمان بضرورة العودة إلى المنتديات العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية والأدبية والدينية مجددا من خلال الجامعة والمؤسسات والمدارس والأندية، كما يجب أن يتضمن محتوى كل منتج إعلامى مضمونا علميا وثقافيا متميزا يُقدّم للشباب وللشعب بهدف تأصيل هذه القيمة فى نفوس أولادنا لبناء جيل متميز علميا وثقافيا ليتقدم بالبلد إلى الأمام، كما يطالب أيضا بتقليل ذكر السلبيات فى وسائل الإعلام، خاصة التى تعددها وتجسدها الأفلام والمسلسلات على أن يتم استبدالها بأفلام ومسلسلات تهتم بغرس القيم النبيلة والأخلاق الحميدة فى نفوس الأطفال والشباب والشعب، وتشجيع البحث العلمى الذى اعتبر أهم أسباب تقدم اليابان، وتأسيس شركات تتخصص فى بحث طبيعة مصر وعرض اختراعات الشباب الجديدة فى وسائل الإعلام.
تعطيل العقل أما انتصار السبكي، الباحثة فى العلوم السياسية، فتقول واصفة الظاهرة -بأنه تعطيل العقل وتفعيل العاطفة وهو حال يمكن أن يوصف به العقل المصرى منذ عقود طويلة، رغم الدعوة الصريحة فى القرآن الكريم الذى يحض على إعمال العقل. والسؤال، لماذا تعطلت نهضتنا؟ لماذا لم نتخذ منهجا مصريا خالصا يحمل سمات ثقافاتنا السابقة وخصائص الفكر والعقل المصرى بانى الحضارة على مر العصور؟ وهل العلة هنا تكمن فى أنفسنا أم فى حكامنا؟ وتواصل انتصار السبكى فتقول: قديما رأوا أن الاستبداد والانغلاق يقتل عمل العقل، وبالتالى يقتل الحلم والإبداع رغم أن البعض يرى أن الألم والاستبداد والاضطهاد قد يخلق الإبداع حيث إن المجتمعات الأكثر حرية وانفتاحا على العوالم الأخرى تنشط عمل العقل لأنها لا تصنع حدودا أو حواجز للحظة الإبداع، ولكن هل هذا يضر بالإبداع حينما يحلق فى سماء لا نهائية بدون رقيب أو قيم دينية أو أخلاقية مما يفقده لذته أو الاستمتاع به؟.. فالعقل يمكن أحيانا آن يعارض قيما وثقافات وقد يدخل معها فى صراع طويل، ولكنه أبدا لا يدخل فى صراع مع الحقيقة الكونية الوحيدة وهى أن للكون إلها يحكمه ويديره ويطالبه بالبحث والتنقيب فى أسرار الكون لخدمة المجتمع ومن هنا فلا يوجد تعارض بين إعمال العقل وصحيح الديانات السماوية لأنها دائما وأبدا تحض على ذلك. فالمقولة التى تتهم الشرق بأن أسباب تعطل عمل العقل لديه ترجع للديانات السماوية مقولة يجانبها الصواب. ومن هنا تؤكد انتصار السبكى أن ما عطل عمل العقل العربى والمصرى هو خضوعه للكهان فى عصوره الأولى ثم لفكر وثقافة حكامه فى عصوره التالية. وتطالب بضرورة أن نؤسس ونرسخ لولادة فكر جديد يساعد ويعمل على نمو العقل والتفكير العلمى بصفة خاصة، مما يجعل طبقة العلم والعلماء فى مقدمة الصفوف لصناعة نهضة وبناء دولة عريقة نعبر بها إلى العالم المتقدم والمتطور ونقضى على ظاهرة التدنى ونفتح الباب على مصراعيه للعلم والعلماء.