لم أكن أعرف عن الشاعر الفلسطينى "يوسف أبو لوز" إلا "ضجر الذئب"، وكان كافيا للولع بهذه الروح المغتربة، وبهذه الفطرة المتوحشة، التى لا تأنس إلا لذاتها، وبهذه اللغة الفريدة التى تتكئ مجازاتها على مفارقة تاريخها النفسي، وتغادر محمولاتها المعروفة لدى الشعراء. تخيلت يوسف أبو لوز شخصا متوحشا، مشتبكا مع الأرض ومعاركها الأبدية مع الكائنات. "يوسف أبو لوز" لا يأتي. وإن أتى فهو هادر كالسيل، يقتحمك دون مقدمات، ولا يعبأ بالحدود الشخصية أو الحيز الشخصى للذوات، عرفت وقتها لماذا وقعت فى غرام "ضجر الذئب". لم اقرأ مثل هذا الديوان شعرا له، وليس بعده أيضا. حتى جاء "زوجة الملح" ليطل يوسف أبو لوز على المشهد الشعري، وليضع قصيدة النثر فى مأزق كانت تنتظره، ف "زوجة الملح" خليط من كل الأنماط الشعرية، حسب الحالة النفسية التى تكتب فيها القصيدة، حتى إنك تتصوره عموديا فى بعض الأحيان وتدهش كيف لهذه الآلية الشعرية أن تمتلك تلك الحيوية، على يد من يعرف ماذا يريد من الشعر، وماذا يريد للشعر، لا تصورَ مسبقا عن الكتابة، لا انتظامَ فى طابور المتشابهين، ولا حتميةَ لنوع شعرى فى شعره، فيوسف ليس مشغولا بأى تصنيف للشعر، هو فى الشعر كما فى الحياة، وذلك مجازه الباهر :" ألفت شعرا فى شبابي، ثم فى شيخوختى ونسيته.. من عادتي، أنسى حياتى أمس"، كأنه لا يكتب الشعر إلا مجبرا، أو تحت إلحاح قوة لا قبل للروح بها: "هل كنت فى صيف السحاب، كأننى المأخوذ من يده إلى أقصى النعاسِ، إذا رأيت غمامةً، أمسكت قلبى صائحا: مطرٌ.. مطر؟". الشعر هو السلوك البسيط والتلقائى لشخصية يوسف أبو لوز، يعبر فيه عن إحباط الجسد قبل الروح، وقصائده الحسية التى يجملها "الذئب" اضطرام الجسد وحصاره، باشتراطات إنسانية واقعية لا تحمل غير الموت عنوانا لمن أراد أن يكون ذاته، كيوسف أبو لوز، وهو بهذا الانفصال عن الواقع ومعاداته قولا وسلوكا، صراحة إنسانية، ووضوحا، جلب إلى نفسه الاغتراب والعزلة، وعاش فى حصاره وحيدا سعيدا، "كموسيقى ليست هادئة": "جاحت ذئاب على الجوع, حتى كثير من الشعراء على الجوع جاحوا. وأنا لم أجع، بل ظمئت، رمتنى بلادى بداء الظمأ فمرضت، ولم يفلح الحكماء بتمريض جسمي، وقد عالجتنى مريم ابنة روحي". ستة دواوين شعرية هى عدة يوسف أبو لوز فى مواجهة العالم: "صباح الكاتيوشا أيها المخيم"، و"فاطمة تذهب مبكرا إلى الحقول"، و"نصوص الدم"، و"ضجر الذئب"، و"حظ الهزلاج", والهزلاج هو الذئب (أيضا), وأخيرا "زوجة الملح". ستة دواوين هى شهادة أبو لوز عن عمره وعصره وقضاياه، ستة دواوين هى صرخة الصدق، عند زيف غالبية الشعر العربى المستلب بين الكاريبى وسوزان برنار، وخمسة دواوين قدمت "زوجة الملح" إلى جائزة زايد للإبداع، التى ينافس فيها، ووصول "زوجة الملح" لا يعنى إلا أن الإبداع الحق قادر على اختراق قلاع الجوائز ذات المتاريس والنقاد. "زوجة الملح" الذى أصدرته مجلة "دبى الثقافية" تعبير عن انسحاب الروح، وتمرد اللغة، تعبير عن الجسد كمجاز وحيد فى مواجهة العالم، فى مواجهة "أشجار عمياء": "الأشجار الصامتة السوداء على أرصفة الليل، صف من عميان، فى إحدى الشجرات ولدت، وفى إحداها أحتضر الآن.. اغمرنى يا ليل، اغمرنى يا من تعبر تحت الأشجار وحيدا مثلي، فى هذا الوقت الساقط فى النسيان، اغمرنى يا حبى الأبدي. أنا لست خجولا من نفسي.. لكن العالم خجلان". دلالة "زوجة الملح" ليوسف أبو لوز أعمق من ديوان الشعر لشاعر عربى جاوز الخمسين، إنه العلاقة الأدق على قدرة القصيدة الجديدة إذا ما تخلصت من الاستلاب، واقتربت من ذاتها، قدرتها على القول والتأثير، وقدرتها على ابتعاث المشاعر التى تشظت فى غابة الرواية، وتاهت حتى نسينا، وقدرتها على خلق علاقات لغوية، ظننا أن الشعر يعجز عنها: "جسدى إنائي، إن طفحت به أسيل على ضفافي، مغرما بحبيبتى الدنيا، فأغسلها ثلاثا، كى تصير شبيهتي، وتطير بي، وتخطفنى وبعد الخطف، من فمها تعلمنى الكلام". دلالة "زوجة الملح" هى فى قدرة جيل الثمانينيات فى الشعر العربى على الإمساك بجمرة الشعرية، دون "غربنة" أو فكرية ملتبسة، قدرتنا على أن نكون جادين فى معرفة أنفسنا، وشعرنا وتراثنا وموسيقانا، قدرتنا على قول "لا"، وعلى توهج روحنا فى مواجهة واقعنا، وقدرتنا على أن نحترم فننا، ورمزية الشعر فى زمن الحرب.