يوما ما سوف تستيقظ أوروبا من لعبتها الخطيرة «باللعب مع الذئاب»، سواء كانت «ذئابا معزولة» أو مطلقة السراح، وبالرغم من الثمن الذى يدفعه البعض فى المجتمعات الأوروبية، وبرغم أن ثمة حملة فى فرنسا وبلجيكا وألمانيا وهولندا ضد «خلايا نائمة» إرهابية، فإن المسألة برمتها لاتزال أبعد ما تكون عن الحل الشامل والصحيح. فالجميع يعرف «التشابكات المريبة» التى جمعت أجهزة المخابرات الغربية، وخاصة البريطانية والأمريكية، بجماعات الجهاديين المتطرفين، وكيف احتضنت العواصم الأوروبية والأمريكية منظمات وواجهات تحرض على العنف والقتل فى الدول العربية، ورفضت تسليم هؤلاء، بل والمدهش أنه لا أحد فسر كل هذا الفشل الاستخباراتى فى أن يتسلل هؤلاء الإرهابيون عبر المطارات الأوروبية والتركية، وصولا إلى سوريا واليمن، والتدريب، ثم العودة والحصول على أسلحة، وشن عمليات، وبعدها ترفع أوروبا فى وجه المعتدلين فى العالم العربى لافتة حقوق الإنسان، وحرية التعبير من جهة، بينما تستمر عملية التواطؤ والتعاون المريب مع جماعات العنف والإرهاب، بل وإفساح المجال لتنظيمات تدعى السلمية، والدلائل جميعا تقول بوضوح إنهم شركاء فى إدماجها فى العملية السياسية بمصر بأى ثمن، وعدم احترام إرادة المصريين التى عبروا عنها بوضوح فى مراحل خريطة الطريق، كما أن لهجة التعالي، والإصرار على عمل المنظمات الأجنبية والأوروبية فى مصر، دون تقيد بالقوانين المصرية المنظمة لعمل جماعات حقوق الإنسان، ومنظمات المجتمع المدني، وفرض وصاية وكأن مصر دولة ليست «ذات سيادة»! وفى حوار صريح مع مفوض الحكومة الألمانية لحقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية كريستوفر شتراسر فى منزل السفير الألمانى بالقاهرة، أقر الرجل بأن «الإرهاب» الذى رآه فى العراق لا يمكن أن تتم مكافحته «بشكل غير عنيف»، وقال: «لست ساذجا لأقول ذلك!». وعندما أذكره بالتهديدات الإرهابية، وبهؤلاء الذين لا يؤمنون إلا بالديمقراطية لمرة واحدة، وبأن الذين خرجوا خلال الربيع العربى كان من بين أسباب خروجهم البحث عن «العيش والعدالة الاجتماعية»، وأن أوروبا نفسها فشلت فى احتضان المهمشين من سكان الضواحى الذين هم روافد «الذئاب المعزولة»، فإن الرجل يقر بأن بلاده ترى التهديد الإرهابي، إلا أن ألمانيا وبقية أوروبا ترى أن محاربة الإرهاب يجب ألا تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، وموضحا أن ذلك يشمل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك السياسية، وطوال الحوار الذى حضره مجموعة صغيرة من الزملاء بالصحف الأخري، فإن شتراسر لا يمل من تكرار جملة «إن حقوق الإنسان هى الأساس لقيام مجتمعات مستقرة»، وبالطبع لا يمكن لأحد أن يجادل مع هذه الجملة فى المطلق، إلا أننا فى عالمنا العربى ودول العالم الثالث نريد مساعدات كبيرة من أجل التدريب، وإيجاد فرص العمل، وفتح مجالات شرعية للهجرة الشرعية، والعمل فى ألمانيا بدلا من الموت غرقا على شواطئ المتوسط الأوروبية. وهنا يتململ الجانب الألمانى ويتعلل بأن ذلك ربما سيكون تشجيعا على هجرة العقول، إلا أننى أبادر بتأكيد وجود برنامج التدريب وتشغيل العمالة المصرية فى إيطاليا، كما أننا نريد توسيع برنامج التدريب الفنى المصرى الألماني، ويعترف شتراسر بأهمية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، ويشير إلى أن نسبة البطالة بين الشباب فى إسبانيا نحو 15%، ويقول بصراحة: «إن هؤلاء الذين لا يعملون يشعرون بأنه لا كرامة لهم». من ناحية أخرى يقر شتراسر بأنه عندما تتحقق حقوق الإنسان فلن ترى أشكال الإرهاب الحالية، ويذهب الرجل بعيدا إلى حد الاعتراف بأنه لا يعلم بوجود دولة واحدة فى العالم تطبق حقوق الإنسان بنسبة 100%! ويعترف الرجل بعدم الاتفاق حتى الآن على أرضية مشتركة لتعريف الإرهاب، ولابد من وجود تعاون أكبر فى مجال حقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، وفى نهاية الحوار ولدى سؤالى عن توقعه لما ستقدم عليه أوروبا لمواجهة أحداث باريس، والتهديدات الإرهابية، قال لى شتراسر: «إن الموقف لدينا الآن خطير.. إلا أننى آمل ألا نرد بانفعال على ما يحدث»!! وأحسب أن الرجل من حقه ألا يشعر بتهديد خطير يمس الدولة الألمانية، أو وجود المشروع الأوروبي، وذلك على الرغم من خوف جماعات اليمين المتطرف التى تدعو صراحة لطرد المسلمين، إلا أننا نحن فى المقابل نرى سقوط الدول العربية واحدة وراء الأخري، من العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى ليبيا، كما أن مصر فى قلب الخطر، ودول الخليج تتقاذفها أخطار وجودية من كل جانب، ومخططات التقسيم والتجزئة باتت معلنة وصريحة. وفى الوقت نفسه فإن إصرار اليسار واليمين الأوروبى على ضرورة إثبات إيمانه وتمسكه بحرية التعبير من خلال الإساءة إلى الأديان ورموزها، ولا يهمه أن تدفع مجتمعاتنا والقوى الإسلامية المعتدلة «ثمنا باهظا» لذلك، وهذا الثمن هو «زيادة جاذبية وشرعية قوى التطرف والإرهاب»، لأنهم يظهرون فى أعين الشباب خاصة بأنهم «الأكثر جرأة»، ودفاعا عن المقدسات فى مقابل تخاذل المعتدلين، بل وتحالفهم مع أوروبا وأمريكا، الذين يشنون «حربا صليبية» على الإسلام والمسلمين. كما أن عدم التعاون مع القوى المعتدلة، واحترام رؤيتها وأجندتها من أجل الإصلاح واستقرار المجتمعات العربية، يفتح المجال أمام «أبواب الجحيم» من العنف والتطرف والإرهاب، وأغلب الظن أن أوروبا لم ولن يكون فى استطاعتها الإفلات من «سيناريوهات كارثية» ليس أقلها أن «الذئاب المعزولة» سوف تضرب بقوة فى أراضيها، كما أن ظاهرة الإسلامفوبيا الكراهية المرضية للإسلام والمسلمين سوف تكبر وتمتد لتشمل معاداة اليهود، والأجانب، ونمو اليمين المتطرف الذى يدق أبواب العواصم الأوروبية بقوة، وأخيرا فإن المثل التركى يقول «لا تفرح بالنيران فى منزل جارك، ولا تستدفئ بخشب منزله»، وأغلب الظن أننا جميعا معا فى هذه المعركة الكبرى ما بين الاعتدال والتطرف، وفى نهاية المطاف لابد أن تحرق «نار الإرهاب» أصابع الذين حاولوا الاستفادة أو اللعب «بالورقة الإرهابية». لمزيد من مقالات محمد صابرين