غيرخاف أنه قد وقع عزوف وتجاهل متعمد لطبيعة وأهمية الخطاب، ولم يستدع إلا لأهداف سياسية ومرحلية، والدين فى مصر هو حصنها الحصين عند كل منعطف تاريخى أو ملمة، ألم يحمل الأزهر الشريف لواء مقاومة الاحتلال الفرنسي؟ وكان ومازال مصدر الإشعاع و التنوير فى كل أرجاء العالم الإسلامي، والخطاب الدينى هو عملية فكرية توعوية تسعى لنشر الدين عقيدة وشريعة وأخلاقاً ومعاملات وما ينفع الناس فى الدنيا والآخرة معتمداً فى ذلك على أسانيد فقهية سمحة تحدد بإعلاء مقاصده فى تحقيق الأمن والاستقرار ونبذ كل أسباب الفرقة والشتات وجمع الأمة على قلب رجل واحد لمواجهة التحديات والتهديدات وهنا نقطة الالتقاء الأولى مع الأمن القومي. بإيجاز نحن فى حاجة ماسة لمراجعة وتنقية الأسانيد خاصة الآراء الفقهية التى اشتق منها المتطرفون أفكارهم التى قاطعت الحداثة رافضة اجتياز حواجزها ، مع أن الدين قادر على اجتيازها والتوافق معها، وقد سبق علماء أجلاء ثقات بالعبور بالأمة من مآس مماثلة فى مواجهة التغريب أمثال الشيخ محمد عبده والشيخ المراغى وغيرهما من العلماء الأجلاء . تاريخيا عمد القصر والاحتلال إلى تجميد دور المؤسسات الدينية فحدثت فجوة فى الاجتهاد أدت إلى فراغ سعى لملئه جهال الأمة بأباطيل استغلت الدين لتحقيق أهدافها وكان النصف الأول من القرن العشرين فترة تضافرت فيها الجهود لظهور تيارات متطرفة ولم يكن غريباً أن يدعم الاحتلال الإخوان المتأسلمين رغبة منه فى اختراق نسق القيم الرئيس فى المجتمع. ثم شهد الأزهر الشريف عصراً ذهبياً وإدراكاً فكرياً منذ خمسينيات القرن الماضى فتراجعت التيارات المتطرفة القهقرى وازداد الحس الوطنى بالأخطار وكان الخطاب الدينى حارساً وكاشفاً لأفكار تهدد الأمن القومي. لكنه لم يلبث طويلاً على أثر توجه الإدارة السياسية من السبعينيات على تشجيع التيارات الإسلامية لأهداف مرحلية ،حيث تحول الخطاب الدينى داعماً للرئيس المؤمن رافعاً شعار العلم والإيمان وانتهت الفترة باغتيال الرئيس ومحاولة نشر الفوضى فى ربوع الوطن، واكتشفنا أدبيات تكفيرية، ما أنزل الله بها من سلطان، اعتمدت على آراء فقهية هى الأكثر تشدداً لدى فقهاء مثل ابن تيمية وغيره ، وظلت الكتابات والآراء الفقهية تسرى فى ربوع مصر لتصوغ فكرا متطرفا.. والمقال لا يسمح بالإشارة إلى كتاباتهم المتطرفة، من معالم فى الطريق إلى الفريضة الغائبة إلى توحيد الحاكمية هذا غير فتاوى الفتنة والفرقة، ناهيك عما نشره غلاة السلفيين، وكان صمت العلماء أن تركت الساحة للجهلاء والهراطقة، وأصبح الخطاب الدينى آنذاك خليطا بين السياسة والمؤامرة، وكانت النتيجة ما نراه من إدارة التوحش الجاهلى فى العراق وسوريا وليبيا واليمن من تنظيمات إرهابية متعددة الجنسيات والتمويل تحت مسميات عدة. ومن هنا أناشد الكتاب والمفكرين رفع اسم كل ما هو مقدس عنها سواء إسلامية أو دينيةونعتها بفعلها الإرهابى من الإخوان إلى القاعدة إلى بوكوحرام إلى أنصار الشريعة. إن تصحيح مسار الخطاب الدينى إنما هو عودة ودعوة لصحيح الدين واستخدام العقل والفكر فى توجيه وإدارة القوة الناعمة فى مواجهة التطرف وخلع جذوره الداعية للإرهاب، وهنا يلتقى هدف الخطاب الدينى مع أهداف الأمن القومى فى درء أخطار جسام تنهش فى عقل الأمة تحاول العودة بها إلى العصور الوسطى وما اتسمت به من تخلف فكرى وثقافى ، حيث انقسمت فيه الأمة فكانت صيداً سهلاً لأعدائها، أن تصحيح مسار الخطاب الدينى إنما هو دعوة وطنية أممية لوقف حالة الصراعات والعنف الشرس العابر للحدود ، ألم تخرج الجماعات التكفيرية من رحم خطاب دينى مشوه اعتمد على تزييف الوعى وتزيين الجهل؟! إن نقد الخطاب الدينى وتصحيح مساره ليس تشكيكا فى المؤسسة الدينية وأئمتها الأجلاء، بل لأن المسار أصبح خارج سياق الاعتدال وجهود إصلاحه مبعثرة ومتفرقة . والقضية ، ليست ما يقال على المنابر فى خطب الجمعة أو عبر الفضائيات إنما الأمر يتعلق بمنظومة التعليم الدينى ككل. وبعيدا عن جدلية مكونات وأبعاد ومجالات الأمن القومى التى يدركها المتخصصون نوجزها فى الأبعاد التالية السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والمعلومات والبيئة الاجتماعية والمعنوية والأيدولوجية والثلاث الأخيرة فيها اجتمع المكون الثقافى للأمة وقاعدته الأصيلة الدين وبجواره الأعراف والتقاليد والعادات وموروثات حضارات سابقة أسهمت فى تشكيل هوية الأمة، وهنا يظهر دور الخطاب الدينى كعنصر فاعل ورئيس فى المكون الثقافى الذى هو كما أشرت من أهم العوامل المشتركة بين الأبعاد الاجتماعية والمعنوية والأيديولوجية أى أن تجديد الخطاب الدينى إنما هو بعث ثقافى لهوية الأمة.. حفاظاً على أمنها القومى. أعلم أن التدخل الجراحى بات ضرورة إستراتيجية لحماية الأمن القومى والبداية مراجعة الحالة الدينية قبل الخطاب الدينى ، خاصة أن مبادرة الرئيس السيسى جاءت من خلال طرح مفهوم ثورة دينية ، ومن ثم فنحن أمام دعوة للإصلاح والتصحيح تقع مسئولياتها على أئمتنا وعلمائنا وهم تاج على الرءوس بمكانتهم ودورهم وأعلم أن ميراث الفكر المتطرف ثقيل وجهود دعاته نشطة فى مواطن الجهل والأمية ،ونقطة الانطلاق هى تنقية مناهج التعليم الدينى والأزهرى تحديداً نعم مطلوب مراجعة كاشفة ، بل شفافية لاجتهادات بدائية بلغت مرتبة المصادر وهى ليست كذلك بل هى آراء فقهية يؤخذ منها ويرد عليها وفق الزمان والمكان، ولنا فى الإمام الشافعى الأسوة الحسنة فى العلم والتنوير والإدراك والاستدراك ألم يجدد غالبية آرائه الفقهية التى صاغها فى العراق، بعد أن جاء إلى مصر، ألم ينقد الشافعى الإمام مالك والأوزاعى وأبى حنيفة وهم من هم علماً وقدراً هكذا كان التجديد فى الفقه والرأى بين علماء الأمة، ونحن اليوم فى أمس الحاجة لتنقية الأدبيات الفقهية من كل الشوائب التى علقت بها من أجل هدف أسمى هو أن ننجى الأمة ونخرجها من ساحة الصراع والاقتتال إلى ساحة الغاية الحقيقية من كل دين وشريعة ألا وهو تحقيق الأمن. لمزيد من مقالات د. عبد الغفار عفيفى الدويك