يعتقد كثيرون أن ثورة يناير فشلت، فالنظام باقٍ رغم إسقاط رئيسه، وتبدأ فى نظرهم الآن ديكتاتورية عسكرية، وتتراجع الحريات بحجة القضاء على الإرهاب، وتُداس حقوق الشعب بالأقدام، ويعودالفلول ويتجهون إلى الحكم من جديد، بادئين بالهرولة إلى البرلمان المنتظر؛ خاصة بعد استبعاد العدالة الانتقالية فى محاكمة عصابة مبارك، ويرى الشعب كله تقريبا عن حق أن أحواله المعيشية لم تتحسن بل تتراجع، وحيثيات الإدانة لا تُحصَى ولا تُعَدّ. ولايزال سؤال نجاح ثورة يناير أو فشلها يثير الحيرة فيما تقترب ذكراها الرابعة، فلنر ماذا حققت من نجاحات، وأضاعت من فرص. ويُقاس نجاح ثورة شعبية مثل ثورة يناير بمعايير تختلف تماما عن معايير التحول الاجتماعى-السياسى، أىْ ما يسمى بالثورة الاجتماعية. ويتباين تشخيص المثقفين للثورة المصرية وباقى الثورات العربية الراهنة. ومع تبايُن التشخيصات تتباين توقعات المثقفين. ويشعر أنصار تشخيص الثورة الشعبية بأنها كانت ثورة أكثر من ناجحة، رغم ما أخفقت فى تحقيقه، ورغم الأخطار التى لاتزال تُحدق بها. على حين يسيطر على أنصار تشخيصها بأنها «ثورة اجتماعية» أو قابلة للتحول إلى «ثورة اجتماعية» شعور الفشل والإحباط، مع بصيص أمل فى نجاحها، مع استمرارها «المحتوم» ذلك أن «الثورة مستمرة». ويتمثل موقف الجماهير الشعبية، وهو الموقف الأوسع والأهم، فى أن الثورة لم تحقق لهم أهدافهم المتعلقة بمستويات المعيشة والحريات والحقوق، وساد بينهم الشعور، عن حق، بأن حياتهم انتقلت من سيئ إلى الأسوأ. والحقيقة أن هذه الاتهامات، وبينها اتهامات صحيحة، لا تكفى لتبرير كل هذه الإدانات، ذلك أن الموضوعية الصارمة تقتضى إرجاع الكثير منها إلى الأزمات السياسية والاقتصادية والمعيشية التى تخلقها الثورات بوجه عام وبالأخص فى الأجل القصير. وعلى هذا فإنه لا ينبغى النظر إلى كثير من السلبيات على أنها تكشف بالضرورة توجهات النظام الجديد، فمع أنه لا يمكن إنكار توجهات منذرة، إلاأن التركيز على هذه الأشياء يؤدى إلى إغفال القضايا الأكثر مصيرية للشعب كله، والأخطار التى تهدده، وسُبُل محاولة مستميتة لإنقاذه منها. وكان من أهم إنجازات الثورة أن الشعب اكتشف نفسه واكتشف أن الثورة شكل من أشكال الديمقراطية الشعبية من أسفل وأداة حاسمة لفرض أهداف الشعب على الدولة. ودفعت الثورة الشعب إلى صدارة المسرح السياسى. وصار على الحكام أن يضعوا الشعب فى اعتبارهم تفاديا لثورته، واكتشف الشعب فاعلية الثورة، مع أنها ليست أداة تحت الطلب. وكانت الثورة فى حد ذاتها أداة جبارة لتسييس الشعب وتنويره وتوعيته وتعبئته. وأكتفى بإشارات سريعة إلى مكاسب فعلية للثورة فى مصر، وتونس، بالمقارنة مع ثورات سوريا وليبيا واليمن. ومن الإنجازات الثلاثة الكبرى للثورة تخليص مصر من العصابة المباركية التى دمرت مصر، بل اقتربت من دفن الشعب حيًّا. وكان نجاحها بحكم ضعف مقاومة الشعب والأحزاب السياسية التى ظلت تمثل تعددية رمزية، وفىتفادى حرب أهلية طاحنة، وفى توجيه ضربة حاسمة لمشروع الدولة الإسلامية فى مصر والعالم. وقد حققت الثورة المصرية إنجازات لا يمكن أن ينكرها عاقل، وهى إنجازات لصالح الشعب حققها النظام مضطرا تحت ضغط الثورة الشعبية، أو إنجازات حققها النظام لنفسه لأن الثورة خلقت فُرَصا منسجمة مع إمكانية تحقيق توجُّهات للنظام ولكنها لا تتناقض مع مصالح الشعب، مثل ضرب مشروع الدولة الدينية. وكان الإنجاز الكبير المتمثل فى تفادى الحرب الأهلية وثيق الارتباط بضرب مبارك وعصابته وبضرب مشروع الدولة الدينية. وكان مبارك قد بدأ حربا أهلية ضد الثورة وكان من المنطقى أن تتجه الأنظار إلى الجيش، الذى لم يكن ولاؤه لرئيس الجمهورية على النحو الذى شهدناه فى ليبيا وسوريا واليمن،فأطاح مبارك لإنقاذ النظام. وكان من الضرورى إقامة تحالف مع الإخوان المسلمين لاتقاء شرّهم حيث كان بوسعهم التحالف المرحلى بصورة خداعية مع كثير من قوى الثورة على طريق حرب أهلية ضد الدولة والشعب، واتخذ الجيش من البداية سياسة تفادى الحرب الأهلية بكل ثمن، وسمح بالتالى بصعود الإسلام السياسى إلى مواقع السلطة، وإنْ كانت السلطة الفعلية فى يد الجيش الذى أطاح بالإخوان بعد ذلك، فتورطوا فى حرب أهلية فى سيناء والعاصمة والمحافظات. وكان من أهم إنجازات الثورة إنقاذ مصر من الدولة الإخوانية - السلفية التى طمحت، بفضل قوتها الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية، إلى إقامة جمهورية إسلامية عن طريق ثورة إسلامية كالثورة الخمينية، وواصلت بعد الثورة عملها لتحقيق مخططها. وقد تمكنت الثورة من انتزاع حريات من الواجب تطويرها بدلا من إنكارها. ومن إنجازات الثورة إعادة اكتشاف الشعب، فى خضم صراعات الثورة، حقيقة أن المصريين شعب واحد مهما اختلفت عقائده ومعتقداته، رغم محاولات شق صفوفه. كما اكتشف الشعب نفسه كشعب واحد لا فضل فيه للرجال على النساء عبْر الثورة التى لعبت فيها النساء دورا حاسما، وبهذا قطعت المرأة خطوة كبرى إلى الأمام فى سبيل تحرُّر المرأة. ولم يَعُدْ هنا مكان للحديث عن انحرافات الثورة. لمزيد من مقالات خليل كلفت