فعلا .. لنا الله من قبل ومن بعد، فبينما تستجمع الدولة قواها، للقيام بثورة تصحيح فى الخطاب الدينى نحن احوج ما نكون إليها، إذا بنا نساق - عن عمد - إلى الدخول فى معارك جانبية، جل غرضها التشويش وتفويت الفرصة على أن تكلل الجهود المبذولة فى هذا الاتجاه بالنجاح، وتحافظ على خطاب يكرس للتباعد والشقاق، وفى الوقت نفسه توفر أرضية تستغلها التنظيمات والجماعات الإرهابية المحرضة على العنف. اللافت أن المشاركين فى تنفيذ هذا المخطط غير المتماشى وغير المتوافق مع المصلحة الوطنية من اقطاب واضلاع التيار الإسلامى، واناس لهم جمهور عريض من المعجبين والتابعين الذين يلتزمون حرفيا بكل ما يصدر عنهم من قول وفعل، ولا يتركون شاردة ولا واردة من فتاواهم، إلا وطبقوها فى التو واللحظة دون تفكير ولا مراجعة . وإليك أمثلة طازجة على ذلك تابعنا فصولها إبان الأيام القليلة الماضية، فمحمد عبد المقصود، الذى طالما ظهر على منصة اعتصام رابعة متوعدا ومهددا المعارضين والمنتقدين لمحمد مرسى، افتى - لا فض فوه - بجواز حصول الزوجة على الطلاق إن كان زوجها مؤيدا لما سماه «الانقلاب» على حد قوله، مع أننا لم نسمع من قبل أن من بين الشروط الواجبة للطلاق وجود خلاف سياسى بين الزوجين، وتبعه ياسر برهامى، الذى حرم أكل اللحوم والحلويات فى ذكرى مولد الرسول الكريم، وعزز فتواه حزب النور الذى اعتبر الاحتفال غير جائز شرعا، واصفا اياه بالبدعة، وزيادة فى تأكيد عدم المشروعية الدينية بث مقاطع فيديو لأبو اسحاق الحوينى يحرم فيها المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوى الشريف. هذا الموقف تلاقى مع منع تنظيم داعش الإرهابى سكان الموصل من الاحتفاء بالمناسبة، واعتقال من يوزع الحلوى فى طرقات المدينة، وإنعاشا للذاكرة فإن قيادات الدعوة السلفية تطل علينا بتصريحات وبيانات تؤكد معارضتهم فكر داعش التكفيرى الفاسد، وأن هذه الجماعة خارجة على وسطية الإسلام، وأنها تتسم بالشطط الدينى، وتشوه الإسلام بأفعالها الغارقة فى السادية. ورجاء لا تردد دعوات المطالبين باهمال كلام عبد المقصود وأمثاله، وأنه لا يستحق تناوله والتوقف عنده، لأنه يتصف بالشذوذ والخروج على صحيح الدين لماذا؟ لأن الكثيرين ممن يخطبون فى المساجد والزوايا المنتشرة فى ربوع مصر وبعيدة عن إشراف ومتابعة وزارة الأوقاف يتبنون أفكارا مشابهة، ويروجون لها ليلا ونهارا، ويغسلون بها عقول العامة غير المعتادة على التثبت من صحة ما يصل لمسامعهم من الواقفين على المنبر، فهى قادمة من فم الشيخ، وهل بعد قوله قول، والافدح أن روح الكراهية وعدم التسامح طاغية عليها، وتمهد التربة الخصبة لنمو وتزايد التطرف، وهذه الفئة تشكل الشريحة الكبرى. فالأوقاف غير قادرة وغير مالكة للعدد الكافى من الدعاة لتغطية مساجد البلاد، فضلا عن أن هناك قطاعا كبيرا من خريجى الأزهر يدعمون خطاب التشدد ويتمسكون بنصوص ومناهج لا تجارى عصرنا الحديث، وترفض الخروج من شرنقة الجمود بدعوى أن تفسيراتهم الدينية هى الصائبة، وأن عدم الأخذ بها يوقع الشخص فى دائرة الشك وربما يخرجه من الملة، أو فى أحسن الأحوال يجعله من المشكوك فى صحة ايمانه وعقيدته. النتيجة المنطقية لهذا المشهد وقوع مزيد من صغارنا وشبابنا فى براثن وشباك التكفيريين والإخوان الذين يعطلون نعمة العقل والتدبر التى انعم الله بها على عباده، فهم يخاصمون ويعادون تشغيل العقل، ويفضلون خاصية السمع والطاعة، فهى تمكنهم من الاستحواذ على التابعين وقيادتهم حيثما شاءوا. هذا السلوك غير القويم سيحول المساعى والاجتهادات الراهنة لتبنى خطاب ديني عصرى من المهام شبه المستحيلة، نظرا لسيطرة أشخاص بعينهم على المنابر، ومقاومتهم بعنف للتجديد القاضى بتفتيح المدارك وإعمال العقل، كما أمرنا المولى عز وجل فى كتابه العزيز، والسيرة النبوية العطرة، وتمتعهم باستجابات واسعة النطاق من الجماهير، علاوة على تيار داخل الأزهر يعمل بقوة لعرقلة هذا التوجه، فعمليات التفخيخ لن تتوقف من أطراف بالمؤسسات الدينية وخارجها، فكيف السبيل لإعطاء قوة الدفع اللازمة لتطوير الخطاب الدينى وتجنيبه كارثة توظيفه لأغراض سياسية؟ نقطة البدء من مناهجنا التعليمية، حتى تشجع وتنمى الملكات الذهنية، وتشيع التسامح وقبول الآخر، ومواجهة الفكر بالفكر وليس بالاخراج من الملة، وألا يتحرج احد من توجيه الانتقاد للنصوص الجامدة والبعيدة عن جوهر واساس الإسلام، ويجب أن يتبع ذلك تحديث ما يدرسه طلاب الأزهر فى مختلف مراحل التعليم الأزهرى، وأن تكف وسائل اعلامنا عن الترويج للبعد الطائفى والمذهبى فى تغطيتها العديد من الأحداث، مثل اختطاف المصريين فى ليبيا، فهى ظاهرة مؤسفة ومؤلمة وغير مقبولة، وحينما تعرض تكون فى اطار أن المختطفين مواطنون مصريون أولا وأخيرا، غير أن الممارسة العملية تقدمها فى بعدها الطائفى بالتركيز على ديانتهم وليس قاعدة المواطنة، فتقرأ اختطاف 14 مسيحيا فى ليبيا، ثم يلى هذا موضوعات عن معاناة المسيحيين، وأنهم مضطهدون فى كل مكان يذهبون إليه، ومن ثم يتقدم البعد الطائفى على ما سواه، وهكذا نرسخ فكرة الانفصال بين عنصرى الأمة المصرية. إن تجديد الخطاب الدينى يجب أن يكون قضية المجتمع بأسره وليس الأزهر والاوقاف والحكومة ودون هذا لن يتبدل اى شىء، وسيظل الوضع على ما هو عليه. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي