اقف عنده كى اتأمل الاوانى الخزفيه الممتلئة بالملبس الملون فى واجهات العرض الزجاجية العريضة، والى جوارها تماثيل صغيرة من الشيكولاتة الملفوفة بالسلوفان والشرائط المبهجة.. بابا نويل يبتسم لى فى هذا المكان كل عام فى نفس التوقيت.. وكأنه يشجعنى ويدعونى للدخول، فلا اكذب خبرا واقبل دعوته دون مقاومة، كى اجلس وارتشف الشاى باستمتاع و عظمة مع قطعة جاتوه كبيرة مكسوة بكريمة الشيكولاتة الكثيفة، ومحشوة بالبندق واللوز... وقتها بالذات اتذكر هتلر.. نعم هتلر النازى.. كان حلمه ان يجلس مكانى، ويتذوق الجاتوه مع الشاى فى جروبى ،مثلما افعل انا والاف من سكان القاهرة فى كل مناسبة بكل بساطة.. لكن هتلر خسر الحرب، وجروبى وقتها على ما يبدو كان لا يرحب الا بالسعداء والمنتصريين!! القصة حقيقية وحدثت بالفعل.. صباح احد ايام صيف 1942 سرى الخوف فى اوصال القاهرة عقب اعلان روميل انه سيتناول الجاتوه فى الخامسة مساء عند جروبى ! هذه الرسالة التى اذيعت عبر الاذاعة تزامنت مع رسالة موسولينى التى قال فيها ان على نساء مصر ارتداء اجمل ثيابهن ابتهاجا بدخول النازى لبلادهن وكان وقتها جيش النازى قد احتل العلمين وبدا واثقا من إحكام قبضته على القاهرة وكان وقتها اكل الحلوى اللذيذة عند الحلوانى الاسطورى جروبى بمثابة ترسيخ للسيادة الالمانية على ارض مصر.. فقد كان لجروبى قيمة رمزية لدى القاهريين تضاهى مكانة مطعم مكسيم فى باريس، ولما كان الالمان يحرصون وقتها على اخضاع المعالم الشهيرة ذات القيمة فى المدن التى يحتلونها، لذا ذكروا جروبى وفندق شبرد بالقاهرة كما مطعم مكسيم وفندق موريس فى باريس، وبالفعل كان جروبى فى ميدان سليمان باشا وفرعه فى شارع عدلى، هو ايامها الملتقى المفضل لكل اعداء الرايخ الالمانى، سواء الانجليز او الفرنسيين او اليونانيين او اليهود . (هكذا حكت المؤلفة لوسيت لينادو، فى رواية رائعة عن وقائع خروج عائلتها اليهودية من مصر زمن عبدالناصر). والان على ابواب السنة الجديدة، 2015يظهر السانتاكلوز - بابا نويل الطيب، وتبرق شجرة عيد الميلاد وتصطف الهدايا الملونة وعلب الحلوى والمارون الجلاسيه الممتاز داخل جروبى من جديد. لكن مصر تغيرت كثيرا ، ومضت سنوات طويلة فاصلة ما بين زماننا وزمان السنيما الابيض فى اسود، التى كانت تتباهى فيها ماجدة انها على موعد غرامى فى جروبى، لتتناول شاى الخامسة مساء مع احمد رمزى!!. شباب كثيرون اصبحوا اليوم لا يرون فى جروبى أكثر من مقهى عتيق بوسط البلد ، يقدم منتجاته فى أجواء كلاسيكية مملة ، وكأنه مشهد معاد من فيلم قديم . والحقيقة انه أكبر بكثير من مجرد مقهى شهير بالقاهرة، أوماركة مسجلة فى صناعة الحلوى، انه تاريخ طويل بطعم الشيكولاتة ، وذكريات جميلة لأيام تلاشت و كأنها الآيس كريم!. فى الصين، من قديم الازل خلطوا ثلوج الجبال مع العسل والفواكه والنبيذ، كأول كأس آيس كريم فى العالم، وتناوله الناس هناك بهدف المتعة و الاسترخاء.. بعدها انتقلت (الخلطة السرية) الى ايطاليا عن طريق الرحالة الشهير ماركو بولو ، الذى كان فى زيارة للصين، فأعجبته الفكرة و عاد لبلاده بالوصفة، فأضافوا له اللبن، و صار الآيس كريم منذ 1225 أقرب ما يكون للطعم الذى نعرفه حاليا. ثم انتقل الآيس كريم من ايطاليا الى باريس عام 1533، بسبب زواج احدى اميرات فلورنسا من الملك الفرنسى هنرى الثانى، وفى فرنسا افتتحوا من أجله محلات خاصة تبيعه بنكهة الفراولة أو الشيكولاتة. بعدها بأكثر من خمسين عاما زار فرنسا الملك الانجليزى شارل الأول. وقدموا له الايس كريم كواجب ضيافة، فأعجبه للغاية، و نقله لبلاده، وبالصدفة عام 1700 تم ترشيح أحد الوجهاء الانجليز ليكون حاكما لولاية ميريلاند الأمريكية، والآن تستطيعون ان تستنتجوا البقية وحدكم....(!). بالفعل انتشر الايس كريم فى انحاء أمريكا و تخصصت فى انتاجه مؤسسات ضخمة وصار يباع فى الشوارع على عربات متنقلة، بشكله التقليدى فوق البسكويت، وصاروا ينادون عليه بالكلمات الرنانة أو بالموسيقى التى تستلفت نظر الأطفال خصوصا . لكن من أدخل الآيس كريم لمصر و منطقة الشرق الأوسط؟. صانع الحلويات السويسرى جياكوم جروبى، هو أول من قام بذلك، حين جاء الى القاهرة عام 1889، وأسس بها 4 محلات، اولها فى شارع عدلى، وافخمها فى مصر الجديدة (بجوار قصر الاتحادية) واشهرها فرع طلعت حرب الذى يشغل حتى اليوم موقعه المميز(بميدان سليمان باشا) فى مبنى ضخم من طراز البارون، ويعتبر من كنوز مصر المعمارية فى عصرها الحديث ولهذا الفرع بالذات مدخل جانبى لا يعرفه أحد ، كان مخصصا فى الماضى لدخول البشوات و الوزراء وكبار الشخصيات من المصريين والأجانب الذين كانوا يترددون على جروبى فترة الأربعينيات والخمسينيات و يتناولون فيه عذائهم ، أما عن مدخل المحل المكسو بالفسيفساء الملونة والرسوم المبهجة، فلا يخلو هو الآخر من ذكرى، كلمة السر لها (قفير النحل).. تجدها مكتوبة بخط واضح تحت قدميك وانت تخطو خطواتك الأولى بالمكان، البعض يظن انها تميمة تجلب الحظ السعيد لعتبة المحل وزبائنه ، لكنها فى الواقع رمز للحركة الزائدة فى المكان، ليس فقط بسبب الزبائن والضيوف، ولكن لوجود بدروم للمحل به مئات العمال والطباخين فى حالة عمل، وتدريب لا تكاد تتوقف . ويحكى احد الشهود من سكان وسط القاهرة، عن زمن فاروق وظهر 26 يناير 1952، حين انتفضت الجماهير الغاضبة واضرمت النيران فى كل الاماكن التى يرتادها الاجانب ويسكن فيها الاثرياء، دور السنيما والنوادى والبنوك الخاصة والمتاجر الضخمة الفخمة وشركات الطيران ، حتى حلوانى جروبى اضرموا فيه النيران، وسرقوا الختم الملكى من على واجهة مطعمه، واخرجوا العاملين فيه وبينهم الطهاة والخباز وصانع الكريم شانتيه ثم اضرم الغوغاء المسعورون النار فى اجولة الدقيق والسكر الفاخر، حتى ان من شهد تلك الليلة المروعة لحريق القاهرة، لا يمكن ان ينسى رائحة الهواء المعبأ بالسكر المحروق!. المطعم والحلوانى المفضل للست ام كلثوم واسمهان وفاتن حمامة وجيهان السادات وكامل الشناوى وعمر الشريف، كل ما تبقى منه الآن: بناء مهيب ولافتة جميلة وكلمة جروبى مكتوبة وكأنها بيد طفل سعيد، مازالت الاعمدة الضخمة والاسقف العالية والحوائط زهرية اللون والارفف كما هى، فى مكانها، بجروبى سليمان باشا (طلعت حرب حاليا) ومازال فى المكان حلويات، لكن طابور الدفع الطويل امام الخزينة اختفى، كما اختفى الاجانب والوجهاء الاثرياء من المشهد.. المستثمر العربى، الذى اشترى جروبى بداية الثمانينيات، وغير شكله من الداخل وقائمه الطعام فيه، ظل لسنوات طويلة المتهم الاول بتخريب جروبى،عن عمد، وتدهور مستواه، حتى ينمحى اسمه من ذاكرة الزمن والعالم على قدر ما ارتبط فيما قبل، بالاجانب، والارستقراطية المصرية، وايام الفن والمجد بالقاهرة الجميلة .. بينما يرى اخرون ان جروبى شهد تراجعا كبيرا مثل غيره من محلات ومطاعم الاجانب، مع خروج اصحابه من مصر، بالذات فترة الستينيات، وبعد تغير الادارة وبيع المحال ذات الاسم العريق لمن لا يعرفون قيمتها، أصبحت المؤسسة المشهورة رمزا للعظمة الزائلة!. لقد اختفت قائمة الطعام المطبوعة التى تشير لاصناف المطعم العلوى الراقى، وحفلات رأس السنة ورقص التانجو وانغام الاوركسترا.. اصبحت الاختيارات الان محدودة للغاية.. الان يجلس فى جروبى زبائن الصدفة، من المارة بوسط البلد، رجال بملابس عادية، وشباب متوسطو الهيئة وسيدات بدينات بعضهن محجبات، وفيهن من تحمل اطفالها معها.. فى (زمن المول) والبنايات التجارية الشاهقة، تغير جروبى كثيرا، تماما كما تغيرت مصر . ودائما يحكى جروبى عن مصر واحوال الناس فيها .. الشباب الذين دخلوا فى اشتباكات حامية مع الشرطة فى 25 يناير - اقرب ما يكون لمبنى جروبى طلعت حرب - ذهب كثير منهم واحتفلوا فى جروبى بنجاح الثورة نهاية يوم 30 يونيو.. اشتروا الايس كريم الغارق فى كأس الفواكه وبعضهم شربوا الشاى وتناولوا الحلوى والجاتوه فرحين بانتصار ثورة الشعب ضد حكم الاخوان القاتم. شباب كثيرون رفعوا العلم والتقطوا الصور عند عتبات المحل الشهير ،فى ذكرى ابتهاجهم بيوم 26 يوليو 2013الذى دعا للنزول فيه الفريق عبدالفتاح السيسى القائد العام للقوات المسلحة وقتها، لتفويض الجيش ومساندته فى حربه ضد ارهاب الإخوان المسلمين – وللعجب هى ذكرى (26 يوليو) نفس اليوم الذى غادر فيه الملك فاروق مصر. ماذا سيحدث فى السنوات القادمة؟. هل سيعود النور والتألق والبهجة.. هل سيعود زمن الحب والفن والسعادة بنكهة الكراميل والكريز؟ وبعد كم سنة يعود اصحاب الابتسامات العريضة والازياء الراقية لمحلات وسط القاهرة ؟. لا تنتظر اجابات الايام فى مكانك.. تفاءل واحتفل بالعام الجديد.. وانثر سكر الذكريات الحلوة فوق الاماكن حولك. وتعال الاسبوع القادم معى كى نكمل الجولة ونكتشف حكاية اخرى للحب.. فى شوارع مصر العامرة.