تسهم الصناعات الإبداعية بحوالى 3% من الاقتصاد الخاص بالاتحاد الأوروبي، وتبلغ القيمة السوقية لهذه الصناعات هناك حوالى 500 بليون يورو، ويعمل فيها حوالى 6 ملايين نسمة. ويهتم هذا القطاع بشكل حاسم بالابتكار، خاصة ما يتعلق منه بالأدوات والشبكات. ويُعد الجمهور الخاص بدول الاتحاد الأوروبى صاحب ثانى أعلى نسبة مشاهدة للتليفزيون فى العالم، كما أنه ينتج أفلامًا أكثر من أية منطقة أخرى فى العالم (هناك دراسات أخرى تقول إن الهند هى الأولى فى ذلك، تليها الولاياتالمتحدة ثم نيجيريا)، ويعد برنامج أوروبا المبدعة Creative Europe الجديد والمقترح من البرامج المهمة التى سوف تساعد على الحفاظ على التراث الثقافى للدول الأعضاء فى الاتحاد، كذلك العمل على زيادة التوزيع للأعمال الإبداعية داخل أوروبا وخارجها، وسوف تقترح اللجنة المشكلة الخاصة بهذا البرنامج توفير دعم حالى مناسب يقدمه بنك الاستثمار الأوروبى لتقديم فرص ودراسات جدوى مالية للصناعات الثقافية والإبداعية هناك. وفى إندونيسيا ثمَّة اهتمام زائد بالصناعات الإبداعية، إذ تم إنشاء وزارة جديدة فى الحكومة الإندونيسية هى وزارة السياحة والاقتصاد الإبداعى Tourism and creative economy وتم تعيين عالمة الاقتصاد المعروفة هناك الدكتورة مارى بانجستو Mari pangestu بصفتها أول وزيرة تعيَّن فى هذا المنصب فى عام 2011، وقد كانت وزيرة للتجارة وكذلك وزيرة للتعاون والصناعات الصغيرة والمتوسطة قبل ذلك. وقد تم تحديد القطاعات التى تعمل فيها هذه الوزارة الجديدة فى أكثر من خمسة عشر مجالاً: الفنون وأسواق العاديات والتحف، فنون الأداء، الحرف اليدوية، الأفلام والفيديو والتصوير الفوتوغرافي، الأزياء، الألعاب التفاعلية، الإعلان، التصميم، البرمجيات والكومبيوتر، الموسيقى، العمارة، النشر، التليفزيون والراديو، البحوث والتطوير. وهى تقريبًا المجالات أو القطاعات التى يشتمل عليها التصنيف البريطانى فيما عدا إضافة ذلك القطاع الأخير الخاص بالبحوث والتطوير فى القطاعات الثلاثة عشر الأخرى، الذى لا يتضمنه التصنيف البريطانى بالإضافة إلى اهتمام هذه الوزارة أيضًا بالسياحة فى شكلها العام، كذلك ما يتعلق منها بالسياحة الثقافية على نحو خاص. أيضًا اهتم بعض الأفراد والمؤسسات والدول بما يسمى بالقوة العاملة الإبداعية؛ فمثلاً حاول ريتشارد فلوريدا R.Florida فى دراسة له أن يكشف خلالها لماذا تجتذب بعض المدن الأمريكية مثل سان فرانسيسكو المنتجين المبدعين، وقال إن النسبة العالية من الطبقة المبدعة تقدم مدخلاً أساسيًّا للإنتاج الإبداعى الذى يسعى المستثمرون وراءه، كما أنه حاول أن يستكشف أهمية ذلك التعدد والتنوع الثقافى الموجود فى المدن التى درسها، مثلاً وجود تنوع دينى وعرقى وحالة من التسامح إزاء المختلفين عن النمط السائد فى بعض المدن. يقدم المناخ الاجتماعى والثقافى والفنى والتكنولوجى والاقتصادى المناسب دعمًا كبيرًا للإبداع، فى مثل ذلك المناخ تزدهر المؤسسات وأساليب الحياة الإبداعية. ويعمل المناخ المناسب وجو الحرية والتفهم على تيسير حدوث التخصيب المشترك بين العديد من الأشكال الفنية، وكما تجلى ذلك ووضح عبر التاريخ ومن خلال بروز الصناعات إبداعية المحتوى، بداية من النشر والموسيقى حتى السينما وألعاب الفيديو، هكذا يعمل الاجتماعى والثقافى المناسب على خلق آلية جديدة تجذب المستويات المتنوعة من الجمهور وتيسر النقل السريع للمعرفة والأفكار. إن اقتصاد اليوم، فى جوهره، اقتصاد إبداعي، كما أن المورد الاقتصادى الرئيسى الآن، وكما يقول البعض، ليس وسيلة الإنتاج، ليس رأس المال، ولا الموارد الطبيعية ولا العمل، بل المعلومات والمعرفة. وثمَّة مجموعة من الخصائص التى ميزت الاقتصاد الإبداعى منذ خمسينيات القرن العشرين فى الولاياتالمتحدة، يذكرها ريتشارد فلوريدا فى كتابه «عن الطبقة المبدعة»؛ وأهمها: الاستثمار المنتظم فى الإبداع فى شكل إنفاق على مجال البحوث والتطوير زاد من 5 بلايين دولار عام 1953 إلى أكثر من 250 بليون دولار عام 2000 وبضبط عامل التضخم (إحصائيًّا) فإن هذه الاستثمارات كانت - ولاتزال - تنمو بمعدل يصل إلى ثمانمائة فى المائة (800%) خلال تلك الفترة وربما بعدها. كذلك زادت ثمار البحوث وأينعت، على نحو متسق، منذ بدايات القرن التاسع عشر فى الولاياتالمتحدة، وتسارعت وتيرتها على نحو خاص منذ عام 1950، فوصل عدد براءات الاختراع التى يتم الحصول عليها سنويًّا إلى الضعف، كل عام، خلال تلك الفترة التى تمتد منذ عام 1900 إلى 1950، وزادت من 25000 إلى 43000، ووصلت إلى ثلاثة أمثالها (150000) عام 1999 وهى زيادة تقدر بحوالى 250%. وشهدت قوة العمل الموجهة نحو الإبداع التكنولوجي، فى شكل علماء ومهندسين، نموًّا واضحًا أيضًا، إذ زاد عددهم من 42000 فى عام 1900 إلى 625000 فى عام 1950 ثم إلى خمسة ملايين عام 1999. وازداد عدد الأفراد الذين يكسبون عيشهم اعتمادًا على الإبداع الفنى والثقافى على نحو هائل، عبر مسار القرن الماضي، وبشكل خاص منذ عام 1950 إذ زاد عدد الفنانين التشكيليين والكتاب الذين يمارسون فنون الأداء (المسرح – السينما...إلخ) هناك، الذين يطلق عليهم لقب «البوهيميون» من حوالى 200.000 عام 1900 إلى 525.000 عام 1950 ثم إلى 2.500.000 عام 1999، وهى زيادة تعادل 375% منذ عام 1920. وبشكل عام كان هناك حوالى 250 فنان بالنسبة لكل مائة ألف أمريكى عام 1900، وزاد عددهم إلى 350 عام 1950 ثم إلى 500 عام 1980 ثم إلى 900 عام 1999. ووفقا للارقام الدولية المجمعة يصل حجم السلع والخدمات الثقافية المصدرة سنويا حوالى 640 بليون دولار، تسهم الولاياتالمتحدة وحدها بحوالى 142 بليون دولار من هذه السلع والخدمات وبشكل يفوق ما صدرته من سلع وخدمات فى مجالات الزراعة والطيران وما يتصل بهما، كما يعمل فى الاقتصاد الامريكى حوالى 27 مليون فرد على نحو مباشر او غير مباشر وتهتم ما يقرب من 750 الف مؤسسة فى الولاياتالمتحدة بالإبداع والتوزيع فى مجال الفنون فقط ويعمل فيها حوالى 3.1 مليون فرد يمثلون 2.1% من القوة العاملة هناك، وتعد ولاية كاليفورنيا صاحبة ثامن اقتصاد فى العالم وقد أسهم الاقتصاد الابداعى فيها بأكثر من 3 بلايين دولار فى الدخل المحلى والضرائب عام 2012 . لقد كانت مجلة «Business Week» هى التى قدمت مصطلح «الاقتصاد الإبداعي» فى أغسطس عام 2000. أما جون هوكنز صاحب كتاب «الاقتصاد الإبداعي» (2001) فقد استخدمه للإشارة إلى خمس عشرة صناعة إبداعية تشتمل على قطاعات البرمجيات والبحوث والتطوير والتصميم والصناعات إبداعية المحتوى كالسينما والموسيقى، وهى الصناعات ذات الصلة الوثيقة بحقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وحقوق النشر والتصميم وغيرها، وقد قدر الدخل السنوى لهذه الصناعات فى العالم عام 1999 بحوالى 2.24 تريليون دولار، كان نصيب الولاياتالمتحدة منه حوالى 960 بليون دولار (أكثر من 40% من الناتج الإجمالي) وهو الأمر الذى يفسر السبب الذى يجعل الولاياتالمتحدة تنفق حوالى 40% أيضًا مما ينفقه العالم كله على مجال البحوث والتطوير. هكذا تتجلى قيادة الولاياتالمتحدة وهيمنتها على المجالات الإبداعية، إضافة إلى هيمنتها الكبيرة أيضًا على عمليات التطور فى الإبداع المرتبط بالتكنولوجيا الجديدة وأساليب التصنيع الجديدة التى هى مسئولة عن قدر كبير من ازدهار الأمة فى التنافسية الخاصة بالاقتصاد العالمى منذ ثمانينيات القرن العشرين. تسهم الصناعات الإبداعية بحوالى 600 بليون دولار فى الاقتصاد الاوروبي، كذلك تجاوز انفاق الصين على الصناعات الثقافية والإبداعية 97 بليون دولار عام 2009. هكذا يلعب الإبداع دورًا مهمًّا فى إدارة الموارد البشرية؛ لأن الفنانين وغيرهم من المبدعين المتميزين يمكنهم، كما أشار «دى بونو»، استخدام التفكير الجانبي، أى التفكير بطرائق غير تقليدية أو نمطية من أجل تقديم الأفكار والنتائج الجديدة التى يمكن توظيفها بعد ذلك فى صناعات ثقافية وإبداعية مهمة. كذلك تتطلب الوظائف الجديدة مهارات جديدة ذات طبيعة عالمية أو مرتبطة باقتصاد العولمة الجديد، إذ يمكن لأصحاب هذه الوظائف العمل فى أى مكان حر يكون قريبًا أو بعيدًا عن مكانهم الأصلي. إننا نحتاج فى مصر الآن الى عقل جديد، وتفكير جديد، وخيال جديد، فلم تعد الطرق التقليدية فى التفكير والتعبير والسلوك والانتاج صالحة لهذا العصر الجديد أو القرن الجديد، اننا نحتاج الى مدن ابداعية جديدة تهتم بالصناعات الثقافية والابداعية، ويتم إنشاء جامعات ومؤسسات جديدة بها، مدن تمتد من قناةالسويس شمالا الى قنا و اسوان و حلايب وشلاتين جنوبا، ومن مرسى مطروح والوادى الجديد غربا الى الاسكندرية و سيناء شمالا وجنوبا و وسطا؛ إننا نحتاج الى كل ما يمكنه ان يدفع مصر وشعبها وأمتها الى الامام والى مكانتها المرجوة المرموقة السامية والتى هى، دون شك، جديرة بها.