تتطور الثقافة الصينية الآن علي نحو زائد ملاحظ, ويعبر الصينيون, صراحة أو ضمنا, عن تفضيلهم المعايير الشخصية والمتوجهة نحو الأفراد التي من شأنها أن تجعل المجتمع أقل رسمية وأقل نمطية, لكنه يظل أيضا, علي الرغم من ذلك, مجتمعا صينيا. لم تمر الصين بأوقات مفعمة بالراحة عبر المائة عام الماضية; فمنذ أكثر من مائة عام بدأت سلسلة من الثورات الأشبه بالزلازل بداية من الإطاحة بسلالة المنغ الحاكمة في عام1911 وما أعقبها من سنوات من الصراعات الداخلية الطويلة, كذلك حرب شرسة مع اليابان ثم حرب أهلية بين أتباع شيانغ كاي شيك من القوميين وماوتسي تونج من الشيوعيين. ثم بعد انتصار ماوتسي تونج الساحق في عام1949 حلت محل وهج الانتصار, علي نحو سريع, سياسات اجتماعية مفعمة بالفواجع تلت إحداها الأخري, كان من بينها ما سمي بالثورة الثقافية وما أعقبها من كوارث. وقد لعب التاريخ الصيني والوعي به وبخصوصيته وخصوصية التراث الصيني وتميزه وكذلك الفن والمرونة السياسية والإبداعية للقادة الجدد في الصين دورا كبيرا في هذا المجال, خاصة مع الطرح المتزايد للرؤية الجديدة الخاصة بالحلم الصيني, حيث الحلم هناك, ليس حلما فرديا, بل هو حلم جماعي وحلم فردي خلال الوقت نفسه, إذ تحقق الأمة حلمها الكبير وتحقق لأبنائها أحلامهم الكبيرة أيضا خلال الوقت نفسه, والحلمان يسيران علي نحو متواز يساند أحدهما الآخر, ولا يأتي أحدهما بعد الآخر, ولا يستبعد احدهما الآخر. ومصطلح الصناعات الثقافية الابداعية في الصين هو نفسه المصطلح الذي يشار إليه عالميا بهذا الاسم ايضا, وتشتمل الصناعات الثقافية والإبداعية في الصين علي: فنون الإعلان والعمارة والفنون التشكيلية والآثار, وألعاب الكومبيوتر والحرف الشعبية والتصميم وتصميم الأزياء وعروضها والأفلام والمسلسلات والموسيقي وفنون الأداء والنشر والبرمجيات والتليفزيون والراديو والوسائط الرقمية. وقد شهد قطاع المشروعات الثقافية في الصين نموا زائدا علي المستوي القومي, إذ شهدت السلع والخدمات الثقافية هناك تزايدا بلغ21.96% كل عام, ووصل الدخل الناتج عنها إلي نحو214 بليون دولار أمريكي خلال السنوات الاخيرة.( يمكن لمن يريد ان يقرأ المزيد عن الصناعات الثقافية في العالم ان يقرأ كتاب الصناعات الثقافية الابداعية والذي ترجمه الصديق بدر الرفاعي ونشر منذ سنوات قليلة في سلسلة عالم المعرفة بالكويت) ووفقا لتقارير وزارة الثقافة الصينية فإن الناتج من هذه الصناعة يطمح في أن يسهم بحوالي5% من الناتج الإجمالي المحلي في الصين في عام.2016 و من أجل الوصول إلي ذلك الهدف فإن الحكومات المركزية والمحلية في الصين قد وضعت خرائط أهدافها من أجل تطوير الصناعات الثقافية والإبداعية هناك خلال السنوات القادمة في ضوء الاتجاهات الستة التالية: الاتجاه الأول: ويتمثل في تواصل التشجيع للصناعات الثقافية الابداعية واستمرارها, كذلك في التشكيل لديناميات جديدة للنمو الاقتصادي القومي. الاتجاه الثاني: ويتمثل في تقديم العون المالي القوي وكذلك توفير الإمكانات الخاصة بالمباني التي تحمل أسماء ماركات تجارية عالمية وأيضا تدعيم الإبداع الثقافي, و زيادة التطور والتكامل في مجال الميديا بأنواعها الاتجاه الثالث: توجيه الصناعات الإبداعية بحيث تصبح أكثر تركيزا علي التحديث والتوجه عالي التقنية والتطوير للميديا المشتركة, و التكنولوجيا الشبكية وتقنيات البعد الثالث والتليفونات المحمولة والتكنولوجيا الافتراضية ورأس المال الالكتروني الاتجاه الرابع: توجيه قدر كبير من رأس المال نحو مجالات النشر والصناعات الثقافية, مع الاهتمام بالابتكار في المشروعات الثقافية والابداعية والاقتصادية الجديدة. الاتجاه الخامس: تزايد ظهور العقارات والمباني, كذلك المنتزهات العامة أو الحدائق الثقافية, ولعل أبرز الأمثلة علي النجاح في الدمج بين الثقافة ومجال العقارات مشروع واندا بلازا الذي قامت به مجموعة شركات واندا بوصفها واحدة من الشركات التجارية المعروفة; إذ وفرت العديد من الأنشطة في ذلك المشروع, ومنها: التسوق, وتناول الطعام, والثقافة والترفيه وغيرها, وجلبت مسارح متطورة وباستثمار قدره2.6 بليون دولار أمريكي في عام2012, كما بدأت مدينة الأفلام الشرقية في كنجاو في عام2013 وهي أكبر موقع إنتاج في مجال السينما والتليفزيون وباستثمار قدره50 بليون رنمينبي صيني( ويعادل الدولار الواحد6.14 من الوحدة النقدية الصينية), كذلك تبين أن خمس عشرة من الحدائق الثقافية القومية الخاصة بالصحافة والطباعة والنشر قد وصل دخلها العام إلي77 بليون وحدة نقدية صينية وبأرباح تقدر ب8 بلايين من هذه الوحدة, ومن بين هذه الحدائق العامة القومية كانت هناك تسع حدائق رقمية وصل دخلها إلي62 بليون وحدة نقدية وبما يعادل32.3% من الدخل العام الإجمالي في مجال النشر الإلكتروني. لقد اصبحت الصناعات الثقافية المحلية ذات طبيعة عالمية وتحسنت قدراتها التنافسية الدولية علي نحو واضح, إذ أصبح الخروج من الثقافة الصينية في السنوات الأخيرة يمثل جانبا مهما من السياسة والإصلاح والانفتاح التي تلتزم بها الدولة هناك, فقد تسارع الانتشار العولمي للمنتجات الثقافية, كما ظهرت الكثير من الماركات العالمية المعروفة, مما قام بإحداث أثر دولي إيجابي يتعلق بالثقافة الصينية, ويتجلي ذلك, تمثيلا لا حصرا, فيما تقوم به مجموعة شركات واندا للصناعات الثقافية عبر العالم وما تقدمه من صناعات إبداعية صينية مهمة. لقد أصبحت الصين في عام2006 ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية, واحتلت المكانة التي كانت تحظي بها اليابان ويتوقع لها أن تصبح في القريب العاجل صاحبة أكبر اقتصاد في العالم. هكذا تقول شيلي لازاروس في تقديمها لكتاب الدافع الإبداعي الغلاب في الصين إن ما ينبغي أن نعرفه عن الصين ليس فقط عدد العاملين فيها, ولا حجم الأسواق المتاحة, بل ان نعرف كذلك ان الصين تعني آلاف السنين من التاريخ, وإنه كلما ازدادت معرفتنا بالتاريخ الثقافي الماضي للصين وهذا الاندفاع التاريخي القوي الخاص بها الذي مزج بين الفضول الثقافي المعرفي وحب الاستطلاع والابتكار- كنا أكثر قدرة علي فهم ذلك العملاق الكبير بارز الحضور خلال القرن الواحد والعشرين. كذلك تقول( نام كاي مينغ): لقد استيقظ التنين الذي نام طويلا منذ وقت قصير, وهو الآن يجلس, ويتثاءب ويدعك عينيه, وإنه تنين جائع, بل يتضور جوعا, في الحقيقة, ولقد كان في سبات شتوي طويل, لكنه يتأهب الآن كي ينطلق عدوا, ويجوب الشوارع في ثقة. توجد في شنغهاي وحدها1000( ألف) وكالة للإعلانات, ويوجد في الصين الكبري حوالي350 مليون من الأسر متوسطة الدخل أي ما يعادل ما يوجد من أمثالها من الأسر في الولاياتالمتحدة وأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا مجتمعة, لقد أدرك الصينيون أن الأمة التي منحت العالم أو قدمت له البارود والحرير وأدوات الملاحة والألعاب النارية لايزال لديها الكثير كي تقدمه. هناك حوالي68 مليون صيني من هواة جمع اللوحات العاملين في هذا المجال في الصين, وهناك أيضا قاعات مزادات لبيع الأعمال الفنية عددها أربعة آلاف قاعة باعت عام2005 بما مقداره3,1 بليون دولار أمريكي من الأعمال الفنية. ثمة حوالي ألف صانع لآلات الكمان وإخوتها في الصين اليوم, وهم ينتجون حوالي250.000( مائتان وخمسون ألفا) من الآلات كل عام, وعمر هذه الصناعة ليس قديما فهو لا يتجاوز الخمسين عاما, لكنه سوق مزدهر علي نحو واضح داخل الصين وخارجها. أما فيما يتعلق بالفنون التشكيلية فالصين لها تاريخ طويل معروف في الرسم والتصوير وصناعة المنسوجات والخزف, خاصة بورسلين الصين الشهير, وهناك بعض الفنانين التشكيليين الصينيين الذين حققوا شهرة وثروة كبيرة بسبب إبداعهم وتميزهم ثمة قرية صغيرة في الصين اسمها ديفين خلية نحل لا تكف عن العمل توجد علي مقربة من مدينة تشنزن وتوصف بأنها أشبه بالملحمة علي الرغم من أنها تكاد تشبه الكابوس بالنسبة لعشاق الاعمال الفنية الاصلية التي تحيط بها الهالات التي تحدث عنها فالتر بنيامين; ففي هذه القرية يعيش حوالي ثمانية آلاف فنان تشكيلي مصور, معظمهم من الشباب و بعضهم من ذوي الاحتياجات الخاصة لكنهم موهوبون, وتنتج هذه القرية وحدها حوالي خمسة ملايين لوحة فنية زيتية كل عام, ويمكنك اذا ذهبت الي هناك أن تشتري مستنسخات لأعمال فان جوخ ومانيه ومونيه وجوجان وبيكاسو بحوالي خمسة دولارات, وتسهم هذه القرية وحدها بحوالي68 مليون دولار في الاقتصاد الصيني. ومن أجل تعبير فناني هذه القرية عن شكرهم وسعادتهم بهذا النجاح والازدهار صنعوا ومعهم الحكومة المحلية هناك تمثالا من البرونز للفنان الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي ووضعوه في مركز القرية واكبر ميادينها. يوجد في الصين الآن حوالي30 مدرسة للفنون, يتخرج منها حوالي عشرة آلاف طالب كل عام, وفي الوقت نفسه فإن عدد تجار الأعمال الفنية والمتاحف يزيد الآن في الصين علي نحو هائل, فهناك الآن حوالي ثلاثة آلاف قاعة عرض للفنون في الصين, منها ثلاثمائة تعمل بنشاط في بيجين وشنغهاي, وتعرض هذه القاعات في هاتين المدينتين فقط أعمالا لحوالي14000( أربعة عشر ألفا) فنان. وفي شنغهاي وحدها تم تقدير عدد الأشخاص الذين يعملون في سوق اللوحات الفنية وفنون الخط في شنغهاي وحدها بحوالي50000( خمسين ألف) شخص(حسب تقديرات عام2007). ومع تطور ميديا الاتصالات والتصوير الرقمي وتكنولوجيا المعلومات تطور العمل في ميدان الفن في الصين إلي حد كبير, وتطورت فنون الرسم والتصوير الزيتي والتصوير الفوتوغرافي والموسيقي والسينما وألعاب الفيديو وغيرها. كي تفهم الصين, يقول العارفون ببواطن الأمور, لا ينبغي النظر إلي الخمسين أو الستين سنة الماضية فقط, بل حاول أن تفهم ثقافة عمرها تجاوز خمسة آلاف عام, ثقافة قدمت للحضارة الإنسانية اختراعات مثل البارود والحرير وآلات الملاحة والألعاب النارية والبورسلين وغيرها, إنها تلك الحضارة العظيمة التي استطاعت- علي الرغم من عدد سكانها الذي يكاد يقترب من المليار ونصف المليار نسمة- أن تصبح صاحبة ثاني اقتصاد في العالم بعد الولاياتالمتحدة, وتوشك أن تصبح الأولي أيضا.