لا يمكن اعتبار بيت عبد الرحمن فهمى الكيان الأثرى الوحيد المعرض للخطر، فمصر فقدت منذعام 1950 إلى الآن ثروة معمارية كانت ستجعل العديد من مدننا مزارات سياحية دولية. حدث ذلك نتيجة لمشاريع عمرانية حكومية أو لقرارات غير مدروسة أو لطموحات أفراد يسعون لتدمير هذا التراث للحصول على ثروات طائلة. تأمل معي عزيزي القارئ مشهد قصر النيل الذي لم يبق منه سوى اسم الكوبرى واسم الشارع في القاهرة؛ هُدم لأجل مشروع كورنيش النيل، بينما لو كان بقى كواجهة معمارية متميزة للقاهرة على شاطئ النيل لأعطانا مثالاً يفوق بناية مجلس العموم البريطاني على نهر التايمز. بُنى هذا القصر لنازلى هانم ابنة محمد على باشا على ساحل النيل أمام جزيرة إبراهيم الزمالك، ثم اشتراه سعيد باشا وهدمه ليوسعه ويلحق به ثكنات للجيش تسع ستة آلاف جندى، ومد إليه خط سكة حديد. وسُجل فى عداد الآثار الإسلامية فى 9يناير 1952، الا أن مصلحة الآثار عادت وأخرجته من العداد فى 26 مايو1954 لوقوعه فى امتداد شارع كورنيش النيل الذى فتح فى هذا الوقت، مع التوصية بالاحتفاظ بالزخارف الخشبية الإسلامية الطراز التى كانت توجد فى القاعة الكبرى الشرقية والأعمدة الرخامية التى كانت توجد فى الشرفة الغربية المطلة على النيل، ليحل محل هذا القصر فندق النيل هيلتون وجامعة الدول العربية. قصر النزهة والجزيرة يقع قصر النزهة بالقرب من جزيرة بدران. بناه القنصل الفرنسى دلى بورت، ثم اشتراه سعيد باشا وأضاف إليه قصرا إلى الجنوب منه لاستخدامهما فى بعض مهام الحكم، بينما كان قصر الجزيرة أحد القصور التى أعاد بنا الخديو إسماعيل، وكان يعرف بالقصر الكبير. شيده عبد الرحمن كتخدا لإقامة الباشاوات المعينين لحكم مصر قبل انتقالهم للقلعة مقر الحكم، وأيضا لإقامة كبار رجال الدولة العثمانية . كان هذا القصر يتكون من عدد كبير من الوحدات المعمارية، تصطف على طول شاطىء النيل، فهناك غرف لإقامة المماليك. وبالقصر قاعة علوية ومقعد به باب يؤدى إلى مساكن الحريم، وغرف ومطبخ وحمام. كما خصصت غرفة لتناول القهوة وألحق بالقصر, الذى بلغت مساحته فدانين ونصف, حديقة وصهريج ومصلى. قام إبراهيم بن محمد على بهدم هذا القصر وإعادة بنائه مرة أخرى، و شيد قصرا لإقامته فى منطقة جاردن سيتى عرف بالقصر العالى وآل إلى الخديو إسماعيل ، فهدمه فى عهد سعيد باشا وأعاد بناءه، ثم رأى استغلاله لإقامة ضيوف مصر الأجانب أثناء حفل افتتاح قناة السويس. وأعيد بناء القصر من ثلاثة أقسام رئيسية، منها الحرملك والسلاملك الصغير، وشبه عدد كبير من المعماريين هذا القصر بجواسق قصور الحمراء بغرناطة، وقد تبقى منه السلاملك الكبير. وسط القصر ردهة فسيحة غير محجوبة عن السماء أرضها من المرمر قائمة على عمد بينها نافورة أثرية، وفى أحد جناحى القصر حجرات مفروشة بأجمل الأثاث ، منها غرفة فاخرة أولم فيها الخديو اسماعيل وليمة لولى عهد انجلترا وقرينته عام 1869 ، وفى الجناح الآخر للقصر أبهاء الاستقبال وحجرات الزينة والحمامات وكلها مصنوعة على أجمل الطرز الشرقية وما بقى السلاملك الصغير ( قصر الأعياد ) أمام مرسى بولاق، وكانت تقام به أعياد الجلوس. وأمام المدخل البحرى للقصر بساط فى وسطه نافورة من المرمر بها تمثال أوزيريس وسط حوض مستدير. فجمع الخديو بين تصميم واجهاته على النمط الإسلامى وبين رغبته فى اتباعه التصميم الأوروبى لداخل القصر، وكلف إسماعيل المهندس الفرنسى باربل بتحويل الأرض الزراعية المحيطة بالسراى إلى حديقة قسمت إلى عدة حدائق هى : الحديقة الخديوية لفلاحة البساتين، والحديقة الخديوية لقصور الجزيرة, وحديقة الأسماك وهى جبلاية ذات كهوف، والصخرة تحتها أنفاق وتنفجر منها عيون، وألحقت بهذه الحدائق صُوَب لتزيين الحفلات أما روضة الزهور فتقع قبالة جسر كوبرى قصر النيل وما تبقى من هذا القصر السلاملك الصغير و أرض نادى الجزيرة وحديقة الاسماك .و لا ننسى سراى الإسماعيلية الصغرى عند كوبرى قصر النيل، وسراى الإسماعيلية الكبيرة, ويحتل موقعها الآن مبنى وزارة الخارجية القديم، ومجمع المصالح الحكومية. الأهرامات فى مستوى فيللا: بات من الملح مراجعة القوانين التي تحافظ على هذه الثروة بدءاً من قانون التنسيق الحضاري الذي به العديد من الثغرات التي تسهل هدم القصور و الفيلات، إلى قانون الآثار الذي يصنف الأهرامات في مستوى فيللا تعود للقرن العشرين، كما يجب إعادة تصنيف الآثار إلى ثلاثة مستويات، مستوى أول يحظى بحماية قاسية، ومستوى ثان يجوز توظيفه بشروط، و ثالث يجوز توظيفه و إجراء تعديلات به. إن أول خطوة يجب اتخاذها هو أن تقود الدولة ثورة للحفاظ على القصور، بل إن رئاسة الجمهورية يجب أن تكون هي القدوة. فعلى سبيل المثال قصر الحرملك في المنتزه غير مستغل من قبل رئاسة الجمهورية منذ سنوات، فإذا ما نُقلت تبعيته إلى وزارة الآثار واستغل كمزار مع تسجيل كامل منطقة المنتزه كأثر وأعيد تخطيطها كمنتجع سياحي، سيكون نقطة جذب سياحي جديدة في مصر. كذلك الحال بالنسبة لقصر عابدين. إن هذه الخطوة ستجعل الكثيرين يدركون أن لهذا التراث عبر زيارته قيمة كبرى, مما سيزيد من عدد المدافعين عنه، خاصة إذا ما شجعت الدولة البنوك على شراء هذه الفيلات و استخدامها كفروع لها، في مقابل حوافز ضريبية أو إعفاءات تجعل من هذا الأمر مغرياً. إن كارثة قصر الأمير عباس حليم في التوفيقية, الذي شيده المعماري الدولي لاشياك، و يعتبر من أجمل القصور في العالم، و إغلاقه بعد أن اشتراه أحد رجال الأعمال، لدليل على محاولة منه لهدمه، و هو ما سيعد فضيحة لمصر، في الوقت الذي يمكن أن يكون هذا القصر متحفاً للتاريخ الطبيعي في مصر على غرار متحفي التاريخ الطبيعي في لندن و نيويورك، خاصة أن وزارة البترول تعامل المتحف الجيولوجي المصري كسقط متاع، فهي تفضل الصرف على نادي كرة قدم، على دعم العلم و البحث العلمي. هذا يقودنا إلى قصر الأميرة فاطمة إسماعيل في الدقي الذي تشغله وزارة الزراعة، و السؤال إذا كان لدى الدولة المصرية رؤية للزراعة واستصلاح الأراضي، هل من المنطقي أن يكون مقر وزارة الزراعة ومراكز أبحاثها في وسط كتل سكانية في العاصمة، أم أنه من الأوقع أن يكون مقرها في مناطق جديدة للاستصلاح الزراعي النموذجي ؟!. ماذا تبقى لدينا من هذا التراث؟ لدينا عدد كبير من القصور و الفيلات، و القول إن أي دولة تستطيع أن تحافظ على هذا التراث بامتلاكه قول عبثي، إذ أن موارد أي دولة تعجز عن امتلاكه و الحفاظ عليه، وعلينا في مصر أن نسترشد بالتجربة البريطانية والفرنسية، فبدون أن يكون للمحليات والمجتمع المدني دور في هذه القضية لن يكون هناك أمل. فالمحليات تسعى جاهدة إلى تجاهل هذه القضية, في ظل فساد أدى إلى هدم مبان من ذات الطابع المعماري المتميز، لذا إذا أرادت مصر الحفاظ على هذه الثروة، فيجب أولاً إصلاح المحليات وقانون الحكم المحلي. كما أن المجتمع المدني المصري عليه دور كبير، وقد نجحت العديد من حملات المجتمع المدني في الحفاظ على بعض الفيلات النادرة، ولكن علينا تحفيز الوعي المجتمعي لبناء تحالف يقاوم هدم هذا التراث. إن اكثر ما يؤلم المرء هو وجود أعداد من الفيلات خارج المدن في ريف مصر, بعضها هدم في غفلة من الزمن أو يُستغل بصورة سيئة, كقصر الأمير يوسف كمال في نجع حمادي، أو فيلا سعد زغلول في ابيانة مركز مطوبس، أو القصر الملكي بإدفينا الذي يستغل للأسف ككلية للطب البيطري بالرغم من وقوعه على شاطئ النيل, ومعماره الرائع يؤهله ليكون متحفاً خاصة مع قربه من حدائق قناطر ادفينا، في الوقت ذاته بُعد هذه القصور عن أعين الرأي العام يجعلها عاما بعد عام ضحية للإهمال .. أليس فى مصر دولة رشيدة تضع -على الأقل- هذا التراث نصب أعينها؟