كتب كثيرون حول أصداء تقرير مجلس الشيوخ الأمريكى الصادر أخيراً حول ممارسات التعذيب الذى قامت به السلطات الأمريكية. التقرير يثير عدداً من الدلالات منها ما يتعلق بردود فعل العرب انفسهم ومنها ما ينصب على التقرير نفسه. والتقرير يعيد طرح السؤال الكبير : هل للتعذيب من فوائد؟ لنتوقف أولاً عند دلالات التقرير. الدلالات الخاصة بموقف بعض المؤسسات والمثقفين العرب لا تخلو من دهشة. فالبعض استقبل التقرير الأمريكى عن التعذيب بقدر كبير من الشماتة واحتفى به البعض الآخر من باب التأكيد على أن التعذيب ليس بدعة عربية. المؤكد أن التقرير صدّر لنا حالة من الارتباك. لهذا رأينا مثلاً احتفاءً ملحوظاً بنشر نتيجة استطلاع رأى حول موافقة أغلبية الأمريكيين على ممارسات التعذيب وتجاهلاً لنتائج استطلاعات رأى أخرى مخالفة. الدلالات الأخرى الخاصة بالتقرير نفسه كثيرة. أولها أن التعذيب يمثل ظاهرة يندر أن يخلو منها مجتمع إنسانى إذ يبدو مثل متلازمة الخير/ الشر، والعدل/ الظلم، والصلاح/ الفساد. وها نحن نرى بلداً ديمقراطياً مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية لا تتورع عن ممارسته لمبررات وذرائع شتي. لكن يظل هناك كما سنعرف فوارق كبيرة بين ممارسة التعذيب فى مجتمعاتنا وممارسته فى الدول الديمقراطية. ما يجب التأكيد عليه هنا هو أهمية التعلم من الدرس الامريكى فى سلبياته وإيجابياته. فالتعلم من الآخرين ليس عيباً أو مدعاة للخجل بل هو تعبير عن أهمية نقد الذات وإرادة إصلاح الممارسات الخاطئة. وحدهم المكابرون والكسالى هم الذين لا يطيقون التعلم من الآخرين ويرفضون فى عناد الاعتراف بأخطائهم أو تقصيرهم. هؤلاء هم الفريق الذى يجر مصر إلى الخلف. ثانى دلالات التقرير الأمريكى عن التعذيب هو أن الديموقراطيات الحقيقية والأمم المتحضرة لا تأنف من الكشف عن سلبياتها ونقائصها. ليست المشكلة فى وجود التعذيب أو عدم وجوده. فليس هناك فى الأرجح سلطة أمنية على وجه الأرض لم تمارس تعذيب المتهمين والمشتبه بهم. لكن الفارق بين ممارسة التعذيب فى مجتمعاتنا وبين ممارسته فى الدول الديمقراطية والأمم المتحضرة يتمثل فى أمرين. أولهما تفاوت حجم ونطاق ممارسات التعذيب. فالتعذيب فى الديمقراطيات الحقيقية يبدو نهجاً استثنائياً لكنه لدينا يمثل ظاهرة تكاد تقترب من حدود الممارسة المنهجية. الفارق الثانى ولعلّه الأكثر أهمية أنه إذا كان يُوجد فى الدول المتحضرة سلطات تمارس التعذيب فإن هناك سلطات أخرى تراقب وتكشف وتسائل. جزء كبير من نجاح الدولة الديمقراطية فى الغرب على الصعيد الحقوقى يكمن هنا على وجه التحديد حيث تُوْجد سلطات تكشف وأخرى تراقب وثالثة تسائل. والسلطات الثلاث تمارس واجباتها فى استقلال. ما احوّجنا اليوم فى مصر الجديدة لمثل هذه المنظومة لمكافحة انتهاكات العدالة ومكافحة الفساد ومكافحة كل ما يحول بين هذا البلد وبين انطلاقه إلى الأمام. ثالث دلالات التقرير هو تصحيح انطباع قاصر ومغلوط فى الإدراك السياسى العربى مؤداه أن الكشف عن تقصير او تجاوز إحدى السلطات يعنى فشل المسئول او الحكومة. بالعكس، هذا يعنى تأكيد مصداقية الحكومة ولا ننسى أن كلمة مصداقية مشتقة من الفعل الثلاثى صَدَقَ . فمصداقية الحكومة التى تعلن وتعترف بتجاوزات إحدى سلطاتها تعنى ببساطة أنها حكومة تُعلى مبدأ الشفافية وتسعى إلى الإصلاح وكلاهما اى الشفافية والإصلاح قيمتان مركزيتان للحكم الرشيد. فالشفافية حق للمواطن يعكس شجاعة سياسية للحكومة، والنهج الإصلاحى واجب على الحكومة يؤكد جدارتها بثقة المواطن. تنقلنا أصداء التقرير الأمريكى عن التعذيب إلى سؤال آخر حول الجدوى المنشودة من اللجوء إلى التعذيب. من المعروف بالبديهة أن التعذيب انتهاك صارخ لحق الإنسان فى معصومية جسده واحترام كرامته الآدمية. لكننا لا نعرف أية فائدة سياسية أو أمنية للتعذيب. من الناحية السياسية لم يثبت مثلاً أن التعذيب قد دفع معارضاً سياسياً أو صاحب فكرة للتخلى عما آمن به. بل إن التجربة تؤكد العكس أحياناً وتثبت أن من تعرض للتعذيب يخرج أكثر عناداً وإصراراً على التمسك بمواقفه وآرائه. من ناحية أخرى ليست هناك إجابة واحدة بشأن الجدوى الأمنية من التعذيب. قد يرى البعض أن التعذيب قد ينتزع من الأفواه بعض المعلومات عن شركاء مجهولين لكن المحصلة إجمالاً تبدو سلبية. بصفة عامة وبحكم الشواهد والاستنتاجات فإن ممارسات التعذيب لم تنجح أمنياً فى تحقيق الأمن أو القضاء على الإرهاب ولا على أى فكرة سياسية أو دينية. فالشخص الذى يتم تعذيبه يخرج ولو كان مجرماً حقيقياً أكثر تبلداً وقدرة على تحمل ممارسات التعذيب اللاحقة. أما المعارضون السياسيون فالتعذيب لم ينجح يوماً فى القضاء على فكرهم بل ربما منحهم صلابة نفسية وروحية ورأوا فيه نوعاً من التضحية والفخر. كثير من التنظيمات الدينية والأحزاب السياسية تمنح أعضاءها الذين ذاقوا مرارة السجون وويلات التعذيب تقديراً شخصياً وتراتبية تنظيمية وحزبية. فى أقبية التعذيب تتحول الفكرة إلى طاقة من العنف والإرهاب. تنظيمات إرهابية عديدة تبلورت أيديولوجيتها الإرهابية فى السجون والمعتقلات لتخرج أكثر عنفاً وتطرفاً. ففى الزنازين والأقبية تبدو الأفكار السياسية والدينية كالمعادن التى تتعرض لأعلى درجات الحرارة فتتلوي، وتئن، ويُعاد تشكيلها لتأخذ أشكالاً جديدة. إذا أردت أن تؤكد وجود فكرة وتطلق قواها وتثير تطرفها فقم بتعذيب صاحبها. لا يتبقى إذن من فوائد التعذيب التى يعتقدها البعض سوى انتزاع اعتراف الشخص بارتكابه جريمة ما . لكن مثل هذه الفائدة فات زمانها حيث كان الاعتراف فيما يقال سيد الأدلة. أما اليوم فقد أصبح الاعتراف دليلاً يمكن للشخص إنكاره أمام سلطة التحقيق أو المحكمة لانتزاعه منه بطرق الإكراه والعنف . وهو أول ما يلجأ إليه المتهم حينما يخرج من قبضة الأمن إلى غرف التحقيق القضائى وقاعات المحاكمة. ---------------- قالوا: العين ترى كل شيء، ولا ترى ذاتها! لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم