كان الأديب والكاتب الكبير عبد المنعم الصاوي صاحب المسرحية الشهيرة «الساقية» معروفاً لكل المقربين منه في الوسط الثقافي والأدبي والفني بحبه للشعر وحفظه عشرات القصائد لكبار الشعراء القدامي والمعاصرين، وقد ساعده ذلك علي أن يكون متحدثاً لبقاً وخطيباً مفوهاً والذين يزورونه في منزله بمدينة الصحفيين أول ما يلفت نظرهم مكتبته الأنيقة التي تضم مجموعة من عيون الشعر العربي والأعمال الكاملة للشعراء بالإضافة إلي مؤلفات كبار الأدباء والمفكرين وعلماء الاجتماع والسياسة وغيرهم . وكان حديثه لا يكاد ينقطع عن الشعر الغنائي وشعراء الأغنية الذين تغنت بإبداعاتهم سيدة الغناء العربي أم كلثوم ووضع ألحانها أساطير الموسيقي وكان للشاعر عبد الوهاب محمد منزلة خاصة في قلب ووجدان عبدالمنعم الصاوي ويعتبره من أفضل الشعراء الذين ظهروا بعد جيل الرواد الكبار حسين السيد ومأمون الشناوي وعبد الفتاح مصطفي واسماعيل الحبروك ويري أنه الامتداد الحقيقي للشاعر الجميل مرسي جميل عزيز وكثيرا ما كنت أعرف وأنا أتحدث معه اعتزازه الشديد ب عبد الوهاب محمد منذ أن تغنت أم كلثوم بأغنيته الأولي «حب أيه اللي إنت جاي تقول عليه..» وهو في سن الثلاثين من عمره ويتأمل المعاني الجميلة في كلمات أغانيه والجديدة علي المستمع ولم يطرقها شعراء من قبله «إنت فين.. والحب فين.. ظالمه ليه دايماً معاك.. دانت لو حبيت يومين.. كان هواك خلاك ملاك» ، كما كان الصاوي معجباً أيضاً برائعته الثانية لأم كلثوم «أنا وانت ظلمنا الحب بإيدينا» وغيرها من الأغنيات التي صاغها لحناً صديق رحلته في الأغنية بليغ حمدي.. وحتي بعد أن تغنت أم كلثوم بكلمات شعراء آخرين غير عبد الوهاب محمد الذي كان الشاعر المفضل عند الصاوي والذي سبق غيره من الشعراء وهو في هذه السن المبكرة وكثيراً ما كنت أنقل مشاعر الصاوي تجاه عبد الوهاب محمد في جلسات عديدة عندما كان نقيباً للصحفيين وتوثقت العلاقة بين النقيب والشاعر، وتواصلت الاتصالات بينهما في عديد من المناسبات، وتمر الأيام والشهور والسنون ويصدر قرار بتعيين الصاوي وزيراً للإعلام والثقافة ليكون عبد الوهاب محمد أول من أسعدهم هذا القرار وفي إحدي زياراتي للوزير بمكتبه بالطابق التاسع بوزارة الإعلام في مبني ماسبيرو نقلت للوزير رغبة عبد الوهاب محمد في زيارته وتهنئته بالوزارة فرحب بذلك، وحدد لنا موعداً بعد التاسعة مساء وتمت الزيارة بالفعل وكان السؤال الذي بادر به الوزير لعبد الوهاب محمد .. أيه الجديد عندك حانسمعه قريب لأم كلثوم فابتسم عبد الوهاب وقال .. إن شاء الله أول عمل انتهي منه سيكون معالي الوزير الصديق أول من يعلم به وانتهت المقابلة قرب العاشرة مساء بعد أن طلب منه الوزير تكرار الزيارة متمنياً أن يوفقه الله بعمل جديد لأم كلثوم ، ومرت الأيام وكان عبد الوهاب قد انتهي من كتابة ستين موالا في حب مصر بالإضافة إلي مشروع أغنية عاطفية أوشك علي الانتهاء منها لتتغني بها أم كلثوم، ولكنها هذه المرة ستكون من تلحين الموسيقار الكبير رياض السنباطي. وقد علمت بعد ذلك أن عبدالوهاب أهدي للوزير هذه المواويل الوطنية كأفضل ما كتبه وأحس به تجاه مصر التي أعطته الكثير وفتحت له أبواب الشهرة فاستحقت أن يترجم لها أغلي مشاعر حبه وكرد للجميل ، وشكره الوزير علي هذا الإهداء القيم وقد تسببت هذه اللقاءات المتكررة في توثيق العلاقة بين الصاوي وعبد الوهاب واستمرت الاتصالات بينهما ، وذات مرة اتصلت ب عبد الوهاب في منزله وأبلغتني السيدة خديجة زوجته الفاضلة بأن عبد الوهاب تعرض لشبه جلطة تسببت في عدم قدرته علي تحريك ذراعه اليمنى ويرقد الآن مريضاً في فراشه وتخشي عليه من تطور حالته الصحية للأسوأ واتصلت بالوزير الصاوي علي الفور وكانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة مساء، فانزعج الوزير وأبلغني بضرورة مقابلته في العاشرة صباحاً لكي يطمئن بنفسه علي حالة عبد الوهاب واتفقنا علي أن انتظر الوزير بعد كوبري الجلاء في الميدان وأن أصحبه لمنزل عبد الوهاب في شارع التحرير قرب سينما التحرير بالدقي وقمت بإبلاغ السيدة خديجة أن الوزير سيحضر بنفسه لزيارته، وطلبت سيارة الأهرام لمقابلة الوزير في الموعد وقد تأخرت السيارة أكثر من ربع ساعة لأجد الوزير واقفاً بسيارته في الميدان بعد كوبري الجلاء يلتفت شمالاً ويميناً بحثاً عني وبدت عليه الحيرة خشية عدم وصولي في الموعد وهو لا يعرف المنزل وتجمع رجال المرور حول الوزير .. وبعد أن وصلت اعتذرت لهذا التأخير وركبت معه في سيارته ووصلنا بالفعل الي المنزل، ودخل الوزير ليجد عبد الوهاب طريح الفراش واستفسر عن حالته واتصل علي الفور برئاسة الجمهورية لاتخاذ إجراءات نقله الي مستشفي المعادي لعلاجه وطمأن السيدة زوجته علي انه سيلقي الرعاية التامة وسيعود بسلامة الله الي منزله ، وعاد الوزير الي الوزارة بعد إن شكرت له هذا الموقف الانساني الذي لم أشهده من قبل مع وزير ينزل بنفسه الي الشارع لينقل أديباً أو شاعراً أو إعلامياً إلي المستشفي لعلاجه ، ولم يقف دوره عند هذا الحد بل طلب من مدير مكتبه الاتصال بالمستشفي بصفة دائمة والاتصال بطبيبه المعالج للاطمئنان عن صحته الي ان تم شفاؤه من هذه الوعكة الصحية التي ألمت به وعاد بسلامة الله الي منزله ليباشر إبداعاته كشاعر من جديد، وتكون أول أغنية يهديها عبد الوهاب محمد الي الصاوي مسجلة علي أسطوانة هي أغنيته الشهيرة «كلموني تاني عنك فكروني.. صحوا نار الشوق في قلبي وعيوني..» التي لحنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لأم كلثوم وكتب علي الغلاف إهداء إلي الوزير المثقف والانسان الذي أحب الشعر والشعراء ... لتبقي بعد ذلك هذه الحكاية من حكاياتي التي عشتها بنفسي وعاصرت فيها الشاعر الكبير عبدالوهاب محمد وكنت قريباً منه وتابعت إبداعاته الأخري لأم كلثوم التي بلغت تسع أغنيات وهو ما لم يحدث مع أي شاعر غيره فلم تتغن لشاعر آخر بأكثر من أغنيتين أو ثلاث مما جعل صديقه الاستاذ محمود لطفي المحامي مستشار جمعية المؤلفين والملحنين يطلق عليه لقب الشاعر صاحب التسع عزب، بمعني أن كل أغنية تساوي عزبة من كذا فدان بلغة أعيان المزارعين. وتمر الشهور والسنون ليرحل عن عالمنا صاحب الساقية الأديب الكبير عبد المنعم الصاوي ويتبدل الزمن ليرحل بعد ذلك صاحب فكروني وحاسيبك للزمن عبد الوهاب محمد لتبقي بعد ذلك الذكري العطرة لكل منهما... رحم الله الاثنين وتغمدهما بواسع رحمته بقدر ما قدماه من فكر بناء وفن رفيع لهذا الوطن .