تعيش مصر إيقاعا متلاحقا من الأحداث المصيرية، لكن أليس من حق الذين أسعدونا وأضاؤوا حياتنا عندما تحل ذكراهم أن نتوقف ولو قليلا عند رحيق إبداعهم؟ لو سألتنى عن أعظم ما كتبه شعراء الأغنية عن الحب الذى يتحدى النسيان، سوف أقول لك أحمد رامى «بافكر فيك وأنا ناسى»، وعبد الوهاب محمد «فكرونى إزاى هو أنا نسيتك». قبل أيام قليلة مرت الذكرى السادسة عشرة لرحيل شاعر كبير قدم للمكتبة الغنائية أروع الأغنيات التى شغلت ولا تزال مساحة فى وجداننا، الذى قال «القرب أساه ورانى البعد أرحم بكتير»، إنه عبد الوهاب محمد. سوف أبدأ معكم بحكاية فارقة فى حياته، عندما قرر شاعرنا الغنائى الكبير الاعتزال، عام 60 قبل أن تشدو أم كلثوم بأغنية «حب إيه»، وكان وقتها لم يبلغ الثلاثين من عمره. الصدفة هى التى مهدت الطريق إلى أغنية «حب إيه اللى انت جاى تقول عليه» لتستقر على حنجرة أم كلثوم، كتبها عبد الوهاب محمد، لتغنيها نجاة، لكن لم تقتنع نجاة بالأغنية، وقرر بليغ حمدى أن يقدمها للمونولوجيست ثريا حلمى، لأن بالكلمات إحساسا ساخرا حتى استمعت إليها أم كلثوم بالصدفة، لكن قبل أن تغنيها أم كلثوم ادّعى شاعر شاب آخر، هو محمد زكى الملاح، أنه صاحب الأغنية، وأقام دعوى قضائية، وعاش عبد الوهاب محمد لحظات عصيبة وكاد يعتزل ولم ينقذ الموقف إلا أنه قد سبق له نشر كلمات الأغنية فى مجلة «الجيل»، وخسر الملاح القضية، ويومها اعتذر لعبد الوهاب محمد قائلا إنه أراد أن يحقق الشهرة لنفسه، فأقام هذه الدعوى، وعلى الفور قدمت أم كلثوم أغنية «حب إيه»، واتفقت مع عبد الوهاب محمد على أن تغنى له «أنا وانت ظلمنا الحب»!! وكلمات «ظلمنا الحب» المليئة بالشجن النبيل لم تكن أم كلثوم هى أول من يستمع إليها، فلقد كتبها عبد الوهاب محمد فى منزل صديقه بليغ حمدى، وأسمعه كلمات الأغنية فى جلسة كانت تضم وحش الشاشة الملك فريد شوقى، ويومها بكى «الملك» وهو يستمع إلى هذه الكلمات «ما حدش فينا كان عايز يكون أرحم من التانى ولا يضحّى عن التانى»، فلقد كان فى تلك السنوات -مطلع الستينيات- فريد شوقى مرتبطا بالزواج من الفنانة هدى سلطان، ولم يكن لا هو ولا هدى يريد أن يضحى للتانى!! كان عبد الوهاب محمد صديقا لبليغ حمدى وصديقا لعبد الحليم، ورغم ذلك لم يلتق معه فنيا، عبد الوهاب كان يعلق قائلا إن عبد الحليم فى الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات كان مرتبطا بالشعراء مأمون الشناوى، مرسى جميل عزيز، حسين السيد، وكانوا يقدمون معه أغنيات تثير إعجابه الشخصى، كان يكتفى بالاستماع إليها، وبعد ذلك فى نهاية الستينيات والسبعينيات كان يلاحظ أن عبد الحليم يتدخل فى كلمات الأغانى، ولهذا آثر هو الابتعاد، إلا أن هناك أغنية لحّنها بليغ من كلمات عبد الوهاب محمد ليغنيها عبد الحليم حافظ، وهى «فكرونى»، لكن عبد الحليم كانت له ملاحظات على الأغنية اعتبرها كلثومية المذاق على المستويين الشعرى واللحنى، وطلب إجراء بعض التغييرات، ولم يقتنع عبد الوهاب محمد، وذهبت الكلمات إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب لتغنيها أم كلثوم، وتتردد كلمات «القمر من فرحنا حينوّر أكتر، والنجوم حتْبان لنا أجمل وأكبر، والشجر قبل الربيع حنْشوفه أخضر»، ولم ينس عبد الحليم أبدا أن واحدة من الأغنيات التى انتظرها ذهبت إلى أم كلثوم، ولم ينس بليغ أن الكلمات التى لحنها بإحساسه ذهبت إلى عبد الوهاب، لكن المؤكد أن «فكرونى» أغنية عصيّة على النسيان. لكل شاعر قصة حب وملهمة وأحيانا قصص وملهمات، أم كلثوم أشعلت إبداع أحمد رامى، ومن الممكن أن تجد لطيفة، مثلا، هى التى أشعلت فى السنوات العشر الأخيرة إبداع عبد الوهاب محمد، فكانت لا تغنى تقريبا إلا كلماته، سألت لطيفة عن الحقيقة فأكدت لى أنها كانت ولا تزال قريبة له وللعائلة بعد رحيله، وأنه كتب لها أصدق المشاعر، كتبها لها ولم يكتبها عنها!! رغم كل ما نعيشه من أحداث، وجدت نفسى أستعيد كلمات عبد الوهاب محمد، «فكرونى إزاى، هو أنا نسيتك»؟!