هل كنا ثلاثة.. أربعة؟ أم كنا أربعة خمسة؟.. هبطنا من الدرب الضيق ودرنا مع حارة الميضة إلي المقهي الصغير. أمامنا كان الجامع القديم ورجل يخلع نعليه عند عتبة الباب. عند الناصية جلسنا وطلبت شايا للجميع أما هو فرفع أصبعه في الهواء طالبا قهوة لنفسه ثم قام قاصداً ميضأة الجامع ففهمت أنه محصور. عندما عاد سحبت كرسياً وجلست إلي جواره. نظر نحوي ثم رفع فنجان القهوة إلي فمه وشربه دفعة واحدة. سألته عنه. قلت إنني أظن أنه كان معنا لكنني الآن لا أراه. دار بعينية حوله يبحث عنه ثم وضع الفنجان وقام يريد أن يمشي. دفعت الحساب ومشيت إلي جواره وهم من خلفنا. أمام البيت الكبير توقف فتوقفنا, وضع كفه الكبيرة فوق كتفي ونظر إلي فوق فرفعت رأسي أنظر معه. أشار بوجهه إلي الدور الأخير. كانت قطع الغسيل تتأرجح في الهواء وامرأة ممتلئة قد انكفأت فوق الحبال تواصل رشقها بالمشابك الخشبية. توقفت تنظر إلينا. التفت نحوي يسألني هل عرفت المكان. أومأت برأسي. قال وهو يتفحصنا بعينيه: هنا ستجد ما تبحث عنه ثم غادرنا منصرفاً.. كانت شمس آخر النهار تسحب بقاياها من فوق الأسطح وحيطان البيوت وتجر خلفها أذيالها من قيعان الحواري وفوق الأرصفة. أشرت لهم لننصرف ومضيت فمضوا خلفي وقد صممت علي أن أعود.. ......................... سألته أين كان ذلك اليوم. لم يرد. ملت أنظر إلي الظلام القابع في الخارج . كانت الحافلة تدور مع انحناءة الطريق بسرعة. وضعت كفيّ حول عيني وألصقت وجهي في زجاج النافذة ثم استدرت اسأله. قال وهو يجذبني من ذراعي لأقوم: نعم هي المحطة. انزل.. فنزلت. ......................... في ذلك اليوم قلت لها وأنا أمسك بأطراف أصابعها النحيلة الباردة أنني كنت أري نور الشمس يشرق من عينيها عندما تفتحهما كل صباح وأنني في الغروب أكون دائماً هناك أجمع حبات الليل المتساقطة من فوق أعشاب حديقتها المستسلمة تحت هبات النسيم الباردة تتلفع بالظلام مرتعشة تطؤها موجات البرد الداخلة تبحث عنا في دفء الغرف الصغيرة التي كانت تجمعنا في أحضانها تخفينا وتدير لليل ظهورها.. ......................... في البيت القديم كنت أراه. من جوف عتمة الغرفة خابية الضوء رأيته تلك الليلة في الشقة المقابلة. كان عائداً من الحمام يقطر الماء من رأسه ووجهه. مدّ يده الخشنة يقبض علي معصمها بقسوة وراح يسحبها خلفه فيما كانت هي تقاومه. توقف ينظر في وجهها لحظات ثم دفعها إلي الغرفة أمامه وأغلق الباب. ......................... من فوق رأيته ينحني ليضع المفتاح في باب المحل ثم يرفع الصاج ويدخل. انتظرت فترة ثم رفعت سماعة الهاتف أطلبه. رن الجرس عنده طويلاً حتي عاد مسرعاً. رفع السماعة فسمعت صوت لهاثه. قلت إنه لن يفوز بكل شيء ولا أي شيء.. لا هي ولا البيت. قلت أيضاً إنني أراه وأطارده وأعرف عنه كل شيء. وضع السماعة مضطرباً. كان داخلي يغلي بالغضب والرغبة في الانتقام. خرج وأغلق المحل ثم انطلق يعدو ونزلت أنا إلي الشارع في هدوء.. عندما عدت في المساء كان كل شيء هادئاً. لا صوت. لا حياة. انتظرت أن تضيء عندهم نافذة.. أي نافذة. كان الظلام منتشراً علي السلم وفي مدخل البيت وغرقت شقتهم في صمت عميق. ظللت الليل كله ساهراً أنتظر أن أسمع أي صوت يصدر من هناك. من عندهم. الصبح أيضاً لم يخرج أحد.. ......................... قلت لهم أنني أريده مهما كان الثمن وبسرعة وأنني أسهر الليالي أنتظر عودته ولكنه لا يعود. أخرجت رزمة من الأوراق المالية وضعتها أمامهم علي المنضدة. مدّ أصابعه يلتقطها. نظرت إليه طويلاً وقد بدأت الريبة تتسلل إلي نفسي بشأنه ثم انصرفت.. ......................... عندما سكنت الحركة في الشارع كان الظلام قد أحكم قبضته علي كل شيء إلا بعض أضواء راحت ترتعش هنا وهناك. أشرت إليهم أن ينتظروني أمام البيت الكبير. انطلقت إلي المدخل واهن الضوء صاعداً إلي الأعلي. كانت درجات السلم بطيئة وبليدة بلا إحساس وكأنها انحازت له ضدي وتهيأ لي أنها تريد أن تهبط بي لتطردني إلي الخارج. مبهور الأنفاس وقفت أمام الباب اقرأ اسمه علي ضوء المصباح في يدي. صعدت الدرجات القليلة إلي السطوح فأشرت إليهم من فوق فداخلني شعور بالأمان. نزلت ورحت أدق الباب في عنف فأسمع صوت الدقات يرن في فضاء السلم. عاودت الدق أكثر من مرة واقتربت أضع أذني علي الباب فلم أسمع شيئاً. تراجعت للخلف ورفعت قدمي متهيئاً لركل الباب بقوة حين أحسست بذلك الشيء يرتطم برأسي فتهاويت ساقطاً إلي الأرض ورحت ببطء أفقد وعيي فأحس به ينسحب مع ذلك الخدر الذي بدأ يغزوني وتأكد لديّ ما كنت ألاحظه دائماً من أن الغمام والبرد لا يأتيان إلا مع الغروب وأن النهار يكون دائماً شمساً ونوراً ودفئاً وأنني كنت ليلة بعد ليلة أتلمس ضوء القمر لعلي أراه حتي أوشكت أن أقطع الرأي بأنني لن أراه مرة أخري أبداً.. ثم انقطع كل شيء وحلّ ظلام عميق..