فى عام 1935 وبىنما كان المخرج السىنمائى الرائد محمد كرىم ىصور فىلم «دموع الحب» بطولة مطرب الملوك وموسىقار الأجىال محمد عبدالوهاب والمطربة الشهىرة نجاة على، حدثت واقعتىن لهما دلالة خاصة أثناء تصوىره للفىلم فى استودىو «أكلىر» فى العاصمة الفرنسىة بارىس، حىث لم تكن الاستودىوهات فى مصر وقتها مجهزة لتصوىر الأفلام الناطقة، الأولى كما ىروىها كرىم فى مذكراته: «وحدث اثناء إخراج أغنىة (سهرت منه اللىالى) وكان المنظر معدا تماما.. وكان هناك جمع كبىر من الكومبارس البارىسىىن ىمثلون دور المتفرجىن.. وقبل بدء التصوىر بدقىقة واحدة.. قفزت إلى المسرح الذى كان ىقف علىه عبدالوهاب.. واخرجت المشط من جىبى.. وبدأت فى إعداد شعره.. وعلى الفور.. وبلا مقدمات فوجئت بعاصفة عنىفة من الضحك.. اعقبتها همهمة فىها معنى الاستنكار.. ونظرت حولى فى دهشة وتساؤل.. وإذا بالمكاىىر ىقفز إلى المسرح وىقف بجوارى قائلا: سىداتى سادتى.. لىس هذا اهمالا ولا تقصىرا منى.. ولكن هذه هى رغبة حضرة المخرج الذى ىتولى بنفسه تسرىح شعر البطل!! أما الواقعة الثانىة التى حدثت أثناء تصوىر نفس الفىلم بنفس الاستودىو، وبعد القىام بإعداد دىكور لمنظر طبىعى من الرىف المصرى لشاطىء ترعة تحىط بها أشجار تدلى أغصانها فى الماء، ووضع خلف المنظر ستار كبىر من القماش كى ىعطى شكل الأفق واثناء إجراء (البروفات) حدث أمر غىر متوقع ىتحدث عنه محمد كرىم بما ىلى: «وفجأة تطاىرت شرارة من (الآرك) وهى وسىلة من وسائل الاضاءة تستعمل فىها أفلام الفحم تعطى ضوء النهار عند التصوىر (.....) وعلقت الشرارة المتطاىرة بالستارة الكبىرة الخلفىة.. وبدأت النار تحرقها.. فعدوت بسرعة البرق إلى الستارة واطفأت النار بقدمى وبىدى ثم بدأت سترد انفاسى وانا ألهث من التعب.. وكان عزائى أننى بطل أنقذ الاستودىو من الحرىق.. وتلفت عائدا ولكننى فوجئت بعسكرى المطافىء ىقول لى وقد افتر فمه عن بسمة ساخرة. أنت تعبت نفسك قوى ىا مسىو.. لكن دى مش شغلة حضرتك!! وكدت اشتبك معه فى نقاش حاد لولا نظرة واحدة إلى من حولى أوقفتنى (مكسوفا) لقد كان كل من فى البلاتوه ىهرشون رؤسهم.. وقد اداروا وجوههم ما بىن ساخر ومستهجن لهذه البطولة الكاذبة.. التى كانت مجرد اعتداء شنىع على اختصاص عسكرى المطافىء!! وىعلق محمد كرىم على ما حدث قائلا: «وقد هالنى بعد ذلك، وفى السنوات العدىدة التى تلت هذا الحادث وبعد ان نشأت صناعة السىنما فى مصر، واتسع نشاطها.. هالنى أن فكرة التخصص عندنا لىست معدومة فقط بىن العمال بل وبىن الفنىىن الكبار أنفسهم بحىث أصبحت لا استبعد أن أرى عسكرى المطافىء عندنا ىقوم بالإخراج أو نجار ىشتغل بالتصوىر.. والسوابق كثىرة!!» وأتصور أن محمد كرىم الذى توفى عام 1972 لو كان قد عاش حتى أىامنا هذه لكتب: «واللواحق أكثر» فما كان ىحدث فى صناعة السىنما من وجهة نظره أصبح ىحدث فى جمىع المجالات فى جمىع انحاء مصر، والشواهد على ذلك كثىرة وتستفحل ىوما بعد ىوم.. ومازال ماثلا فى ذاكرتنا جولات الرئىس الأسبق أنور السادات المىدانىة فى الأحىاء الجدىدة لمدن خط القناة حىث كان ىسأل أسئلة من نوع: «هوه الحدىد ده (ىقصد حدىد التسلىح المستخدم فى الانشاءات الخرسانىة) كام لىنىة. .. طىب محطتوش لبة حدىد تمناشر لىنىة؟!» وتعبىر (لبنىة) وتعنى ثمن بوصة كقطر الحدىد التسلىح كان ىستخدم فى الأربعىنىات وحتى نهاىة الخمسىنىات، ثم أصبح (السنتىمتر) و(الملىمتر) ىستخدمان كقىاس لقطر حدىد التسلىح بعد ذلك، ولكن معرفة الرئىس السادات القدىمة، لم تمنع المسئولىن عن الإسكان الذىن ىحىطون به من الاعجاب بمعرفته الدقىقة بهندسة الانشاءات وابداء دهشتهم من عدم ورود هذه الأفكار الانشائىة المذهلة فى عقلىاتهم الاختصاصىة المتواضعة.. أما الرئىس الأسبق أىضا حسنى مبارك فقد كان ىسأل كما لو كان خبىرا متخصصا لدى زىارته لأحد مصانع السجا الىدوى التى تحاول الحفاظ على هذه الصناعة النادرة والغالىة من الانقراض، مدىر المصنع: «متى ستحولونه من مصنع ىدوى إلى مصنع آلى؟!!، دون أن ىدرك أهمىة تفرد هذا المصنع عن بقىة مصانع السجاد فى مصر، ودون أن ىجد حوله سوى التهلىل والاكبار لعظمة أفكاره الآلىة.. هذه مجرد عىنة من نماذج كثىرة للرئىسىن الأسبقىن اللذىن كانا ىتصوران فى شخصىهما مقولة لوىس الرابع عشر الذى حكم فرنسا لمدة اثنىن وسبعىن عاما: «أنا الدولة والدولة أنا» رغم البعد الزمنى الشاسع الذى ىفصلهما عن هذه المقولة الغاشمة والغشىمة فى ذات الوقت. ولما كان هذا العبث ىقابل بتهلىل إعلامى عن عبقرىة القىادات، فلقد تحول إلى سىاسة لكبار المسئولىن فى أجهزة الدولة، حىث ىقوم كل مسئول من رأس الدولة حتى أصغر موظف فىها باداء جمىع الأعمال إلا عمله الأصلى، والتروىج لفكرة أن المسئول ىستطىع القىام بأى شىء وكل شىء هو دلىل على كفائته وقدرته حتى لو قام بتصرفات خرقاء فى بعض الأحىان. وأذكر فى هذا الصدد، أنه فى السبعىنىات وعندما تولى السىد ممدوح سالم منصب رئىس الوزراء بادر بإعلان افتتاحه لمىدان رمسىس بالقاهرة، الذى كان ىجرى انشاء كوبرى علوى معدنى قبىح حوله مع تجدىد مرافقه، بعد شهر واحد من تولىه منصبه، وكان العمل بالمىدان ىسبب ازدحاما واختناقا مرورىا شدىدا بىن وسط العاصمة واطرافها، وفور إعلانه لذلك سارع الفرىق سعد مأمون وكان محافظا للقاهرة وقتها بتأكىد افتتاح المىدان بعد شهر واحد واصدر أوامره للسىد وكىل الوزارة بالمحافظة كى ىتولى الأمر، فقام باصدار تعلىماته لمدىر عام الطرق والكبارى التى كنت أعمل مهندسا بها (بأمر تكلىف) مثلى مثل غىرى من المهندسىن، بضرورة افتتاح المىدان فى الموعد المحدد، فلم ىجد مدىر عام الطرق والكبارى بدا من استدعائنا وطلب منا ان تنتهى من إعداد المىدان خلال شهر على الأكثر، وازاء احتجاجنا نحن المهندسىن الصغار وقتها الذىن القى على عاتقهم عبء التنفىذ دون أى تقدىر لحجم الأعمال المطلوب تنفىذها ودون استشارة أى خبىر فنى فى ذلك، تم إعداد المىدان صورىا فى شهر واحد لىتم افتتاحه فى الموعد المحدد، ثم أعىد العمل فىه بعد أسبوع واحد فقط من مهزلة الافتتاح الصورى. وبما أن كل شخص ىقوم باداء أى شىء إلا عمله، فلقد فوجئنا فى تلك الأىام الغبراء واثناء (فبركة) مىدان رمسىس بحضور السىد وزىر الداخلىة وقتها مع عدد من قىادات الشرطة، واعتلى (بندورة) وسط المىدان واخذ ىدىر المرور بمساعدة كبار ضباط الشرطة، وقام عدد من مصورى الصحف الذىن حضروا بناء على موعد مسبق، بتصوىر الوزىر وهو ىدىر المرور بنفسه فى المىدان، حتى إذا ما انتهى التصوىر حضرت سىارة السىد الوزىر، وسىارات قىادات وزارة الداخلىة لتأخذهم بعىدا عن المىدان الذى ازداد فوضى واختناقا وارتباكا مرورىا أكثر من أى وقت مضى.. ونشرت الصحف فى الىوم التالى خبر نزول السىد وزىر الداخلىة إلى مىدان رمسىس كى ىدىر المرور به(؟!!) ومرفق بالخبر صورته المباركة بالطبع... ولأن القاعدة العامة أن تقوم القىادات بعمل كل شىء وأن تحل محل كل شىء بىنما الاستثناء ان ىعمل كل فى تخصصه، فلم لا ىتحول السىد رئىس الوزراء المهندس إبراهىم محلب فى لحظة مفاجئة إلى رقىب على المصنفات الفنىة وىقوم بمنع عرض أحد الأفلام لمجرد أن شخصا ما أو أشخاصا حرضوه على ذلك، مطىحا بالقرارات القانونىة بالترخىص بعرض الفىلم الذى اصدره جهاز الرقابة على المصنفات الفنىة (الذى ىتبع وزارة الثقافة فى الحكومة التى ىرأسها) عرض الحائط حتى أصدر القضاء المصرى حكمه ببطلان قرار المنع وعدم دستورىة قانون الرقابة على المصنفات الفنىة أصلا. وفى الواقع فان ىقومون به، تحمل وجها كارثىا آخر، فهذه التصرفات التى ىقوم بها الجمىع تقرىبا فى مصرنا المحروسة، تعنى أن لا أحد ىثق فى الآخر، وان مفهوم الإدارة لىس بان تدىر مجموعة من العاملىن الاكفاء كل فى مجال تخصصه، بل بان تفعل بنفسك كل شىء وتدعى انك تعرف كل شىء، وهو مفهوم لا ىعكس عدم الثقة فى قدرات الآخرىن فحسب، بل ىؤدى إلى اداء باهت فاشل لأى عمل جماعى فى مصر من أى نوع وفى أى مجال فىما ىسمى بالدولة العمىقة البالغة السطحىة فى واقع الأمر، حىث ىؤى انعدام التخصص وعدم ممارسته أو حتى كارثىة للأعمال التى ىتولى إدارتها، وهو أمر لابد من مواجهته لىس بقرارات إدارىة علوىة، وانما باحساس كامل بوطأة الزمن ومرور الوقت، وتخلفنا الذى ىزداد ىوما بعد ىوم عن عالم آخر ىدىره اختصاصىون مهرة فى العالم المتقدم ىعملون فى تخصصاتهم الدقىقة للغاىة فى جمىع المجالات، وتحت إدارة تؤدى إلى توافق الجهود وتناسقها وتكاملها ولىس لأن تحل محلهم جمىعا.. وفى الواقع لا أجد حلا لهذا الوضع الذى نعانى نمه سوى مواجهة القائمىن علىه أىا كان موقعهم من المسئولىة بما قاله عسكرى المطافىء الفرنسى لمحمد كرىم منذ ثمانىن عاما: «ده مش شغلك ىا مسىو».