تروى كتب الأدب العربى عن الشاعر الفرزدق واسمه «همّام بن غالب»وعاش فى القرن الثالث الهجرى حكايات وقصص مع زوجته وابنة عمه « النّوار « التى كان يعشقها ويكتب فيها القصائد ، لكنه فجأة أصابه ملل منها ورآها نكسة بعد أن كانت انتصاراً وهماً وغماً بعد أن كانت سرورا وسعادة ، وفكّر فى خيانتها مع جارية صغيرة وجميلة ، لكن الجارية لم تستجب وراحت تصده كلما اقترب منها ،فظل يطاردها حتى قررتْ الانتقام منه، وذهبت الى زوجته وأخبرتها القصة! ، فطلبت منها الزوجة «الماكرة» أن تجاريه فيما يريد ،وواعدته بالفعل ، واتفقا على اللقاء المرتقب فى دار مهجورة وتنكرت الزوجة ، ودخل الفرزدق متسللا فى شوق ولهفة واحتضن «النّوار» معتقداً أنها فتاته ،وفجاة ..هبط قلبه وتعطلتْ لغة الكلام والأحلام والرغبات وجاء صوت زوجته الذى يحفظ نبراته :»يا عدو الله، يا فاسق»، فعرف أنه خُدع، فقال لها بغضب وغيظ : «وأنت يا سبحان الله،ما أطيبك حراما .. وأردأك حلالا»!. وتناقل العرب الحكاية الضاحكة اللطيفة ، لكنهم لم ينتبهوا لسحر العبارة التى قهقهوا وهم يسمعونها « ما أطيبك وأحلاك وأجملك حراما» فالحياة الراكده لا تنتج سوى ملل وبرود ، والهوى يحب الدخول من الأبواب والنوافذ والبلكونات وهو أجمل حين يستيقظ فى غرفة المعيشة ويصحو ويتجدد بغتة فى المطبخ وخلف ستارة الحمام ، أما إن وجد كل ذلك مغلقاً مسدوداً مقفولاً فسيظل كسيحاً يبحث عن جارية صغيرة . ولا تظن أن تلك نصائحى بل هى روشتة الدكتور والعبقرى مصطفى محمود الذى وضع خلاصة تجربته فى عدة مقالات خصصها للحديث عن « الهوى « عن المعنى الغائب والضائع بين الأزواج . ولا تظن أن طرفاً واحداً يستطيع أن ينفخ فى روح الحياة فيجدد هواءها ، فلابد من مستقبل للرسائل ، والهوى لغة لا تُقال ولا تُفسر ،وما فترّ الحب وغابتْ الرغبة إلا لسؤ ترجمة أوغباء فى الإرسال ، ومن يصدق مثلاً أن فيلسوفاً عظيماً مثل الدكتور مصطفى محمود كتب تلك النصائح بعد أن فشل فى تجديد هواه مرتين ؟!،وأصابه الملل والضجر فى تجربتى زواج فقرر مواصلة الحياة بدون أنثى !. فالرجل الذى أخذنا إلى عالم الجبال والتلال والكواكب والنجوم والأشجار والحيوانات فشل فى الهوى! ، وابتعد عن المرأة تماماً وانقطع لرسالته كداعية إسلامى ومؤلف وكاتب ومفكر:» اقتنعت أن هذا قدرى «،وهو المحب للأنثى :» علاقتى بالمرأة لم تنقطع صداقة و حواراً و حباً و عشقاً منذ نضجت و منذ بدأت أخوض الحياة فى سن الثلاثين ، و كان ضعفى أمام الجمال دائماً سبباً لعثراتى و لا أعتقد ان الرجل يمكن أن يكون رجلاً سوياً بدون إمرأة يحبها و يتزوجها و ينجب منها و يشعر بالأبوة و إنشاء الأسرة « . فماذا حدث ؟ أين المعشوقة التى تستحق كل هذا الحب ؟! ولماذا تخفت المشاعر وتتلاشى رويداً رويداً يا فيلسوف ؟ وما هو السر الذى أجبر الفرذدق على اللهاث وراء الجارية الصغيرة ، ؟ ودفعك للطلاق مرتين ؟! يجيب الفيلسوف العبقرى فى مقال عنوانه « الشعور « مؤكدأ أن « التجدد « هو السر ، ويربط بين العلاقة الزوجية والفانلة الداخلية ، ولا تتعجب !،فنحن لا تشعر بملابسنا الداخلية إلا حين نرتديها أو نخلعها ، وفى الفترة بين الحدثين ننسى الفانلة الملتصقة بأجسادنا ،والمرأة بالمثل « تحس بها وأنت تشرع فى الزواج منها...فى فترة التعارف والخطوبة..وكتب الكتاب...وشهر العسل...فإذا لبستها تماما كالفانلة وأحاطت بصدرك وظهرك وذراعيك فقدت الشعور بوجودها، والزواج الذى يسمونه الزواج السعيد...الزواج الذى يدوم فيه الود وتنتظم فيه العلاقة بين الزوجين..فى سياق رتيب هاد...يفتر فيه شعور كل واحد بالأخر وينطفئ الوهج من قلب الأثنين،ما السر؟، «السر فى كيمياء الأعصاب، أعصابنا عاجزة بطبيعتها عن الأحساس بالمنبهات التى تدوم.....نحن مصنوعون من الفناء...ولا ندرك الأشياء إلا فى لحظة فناها». وما الحل والحال كذلك يا عبقرى ؟، أن تتغير الأنثى وتتحول كل يوم إلى امرأة جديدة، ولا تعطى نفسها لزوجها للنهاية، يوضح العبقرى مصطفى محمود أكثر: «تهرب من يده فى اللحظة التى يظن أنه استحوز عليها...وتنام كالكتكوت فى حضنه فى اللحظة التى يظن أنه فقدها» . وعلى الزوج أن يكون فنانا ليحتفظ بحب زوجته ملتهباً متجدداً،عليه أن يكون جديدا فى لبسه...وفى كلامه و غزله...وأن يغير النكتة التى يقولها أخر الليل...والطريقة التى يقضى بها إجازة الأسبوع...ويحتفظ بمفاجأة غير متوقعة ليفاجىء بها زوجته كل لحظة. هذا هو الفيلسوف الموسوعى مصطفى محمود الذى كان ذخيرة جيل الستعينيات ، ، كان الرجل قد سرق عقولنا وتعلقت به قلوبنا قبل مرحلة الجامعة ، أخذنا معه فى رحلات طويلة كأنه قبطان ظل يدربنا على استخدام العقل وتوسيع المدارك واستخدام الحواس جميعها وصولاً إلى إيمان راسخ ويقين لا يتبدل، يقين بعظمة الخالق الذى لا تدركه الأبصار، فالله أصل المخلوقات، وبيده وحده أمرها جميعا، وقدرته سبحانه وتعالى تفوق تصوراتنا الطفولية لتمتد إلى تفاصيل نجهلها. أخذنا الدكتور مصطفى محمود إلى عالم الجبال والتلال والكواكب والنجوم والأشجار والحيوانات.. فكّ لنا أسرار هذه العوالم المجهولة بعد أن كشف لنا أسرار الإنسان الذى لا يعدو كونه مخلوقاً ضعيفاً واهناً لا يتميز بشىء سوى ما منحه الله من عقل يفكر به (قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخل)، تعلمنا على يديه أن الإيمان بالله لا يحتاج زبيبة أو لحية.. لا يحتاج جلباباً قصيراً وساعة فى اليد اليمنى بدلاً من اليسرى، بقدر ما يحتاج عقلاً يفكر ويتدبر ويتأمل عظمته التى تتجلى فى كل شىء. كان نورنا فى مجاهل العالم، نبيا بلا رسالة سوى «العلم وتدبر آيات الله». وفى مطلع 2004 .. ومع الجدل الذى أثاره كتاب «الشفاعة» بدأ الدكتور مصطفى محمود يبتعد رويداً رويداً تاركاً الضجيج والجدل والمعارك الوهمية التى أصبحت ساحة لأنصاف الموهوبين والجهلاء، ابتعد العالم الكبير بعد أن تأكد له، وبوضوح تام أن المتاجرين بالدين هم الأوفر حظاً فى مصر.. ابتعد حزيناً ومكتئباً ويائساً بعد أن تطاول عليه الصغار واتهموه فى دينه!! لم يكن الأمر هيناً على الرجل ، لم يكن من السهل على مفكر وعالم مثله أن تمر مزايدات الجهلاء من دون أن تترك فى القلب حسرة وألماً وجرحاً ظل ينزف حتى تحول إلى مرض عضال، فتدهورت صحته وبدأ الجسد النحيف يشكو الوهن مثلما بدأ الرأس المفكر والعقل المتدبر يرفع راية الاستسلام للصمت انتظاراً لقدر محتوم