العمى فقدان البصيرة ، والقلوب المضيئة هى التى ترى وتسمع ، الروائيون والفلاسفة والحكماء وعلماء النفس أجمعوا على هذا المعنى وصاغوه بطرق مختلفة عبر تاريخ الكتابة ،ولم تبخل علينا الحياة بنماذج متعددة لعميان يبصرون ويصنعون البهجة ،وأصبحنا نتملك عشرات القصص والحكايات عن عظماء وظرفاء وحكماء وموهوبين منحهم الله نور البصيرة وأصبح للعمى بهجة خاصة وطعماً من عسل الجنة ، بهجةً جعلت «عمار الشريعى» يملأ كفيه بالموسيقى وينثرها علينا زهورا وجعلت سيد مكاوى يشرب نغم الأوتار ليروى وجداننا، وجعلت «آل باتشينو» فى فيلم « عطر إمرأة « يعيش لحظاتها وهو يرقص كريشة ، وألهمت فؤاد حداد ليقول :» يا ريتنى أعمى أشربك باللمس «، ولولا بهجة العمى التى عاشها الكاتب الأرجنتينى « بورخيس « عندما فقد بصره فى مطلع حياته ما وصل إلى العالمية ، وهى نفس البهجة التى كتب بها البرتغالى « ساراماجو» روايته الخالدة « العمى «، واستمرت الفكرة عبر عصور الفن والكتابة تنقل بهجة العميان ،وصنع الأدب العربى تراثاً فى تلك المنطقة بكتاب « العميان والبرصان « للجاحظ ، وظهرت فى مصر رواية بعنوان « خفة العمى «لكاتب شاب اسمه» أسامة حبشى « لتبقى البهجة مستقرة فى القلوب التى ترى الجمال والخير ،وتجاوز العدد مشاهير الأدب والفن والموسيقى والغناء إلى بسطاء يعيشون بيننا ويتمتعون بالنور الداخلى ويصنعون معجزات الوجود ، لكن ماذا يفعل الفنان التشكيلى ليصف هذا المعنى وينقله إلى المتلقى ، كيف تنطق الريشة وتتكلم التماثيل الصماء بتلك الفلسفة؟! . النحات المصرى الكبير محمود مختار ( 1891 1934) فعلّها مبكراًوقدم رائعته « العميان الثلاثة « وضحك الصخر لينقل حالة فنية لثلاثة أصدقاء فى طريق عودتهم من سهرة فنية حيث يظهر قائدهم فارع الطول يتكشف الطريق بعصاه ، بينما « المنشد « يستند إلى رفيق ثالث يبدو قصيراً وخفيف الظل، وتحدثتْ أبحاث الفن والنحت العالمية منذ عشرينيات القرن الماضى وحتى اليوم عن حركة الرؤوس فى هذا العمل البديع وكيف تطل الابتسامة من وجوه الأصدقاء الثلاثة وعن العبقرية التى استمدها صاحب تمثال «نهضة مصر» من أجداده الفراعنة وحفرياتهم البارزة فى تجسيد العازف الأعمى على جدران المعابد . ومنذ عشر سنوات تقريباً وقف النحات الراحل عبد الوهاب الوشاحى أمام « طه حسين « ليبحث عن النور الذى ملأ قلبه وتربع تحته على قمة الأدب العربى ، ورأى النحات ضوء النهار يطل من العينين ويخرج منهما نوراً ، وعكف عامين ونصف العام ليصمم تمثالاً لعميد الأدب العربى يخرج النور من عينيه كلما تعرض للضوء . النحات الأمريكى « راندولف روجرز » قرأ سطوراً فى رواية « آخر أيام بومبى « للسير إدوار ليتون » عن فتاة عمياء تُدعى« نيديا» تقود سيّدها إلى شاطىء الأمان من خلال الاستماع لأصوات البحر وقارب كان بانتظارهما لينقذهما من الحريق الهائل الذى غطى سماء مدينة بومبى الإيطالية ، وواصل «روجرز» الليل بالنهار مشغولاً بتلك السطور ليقدم فى النهاية عملاً بديعاً عن نور البصيرة وضوء قلب فتاة بومبى ، وهو المعنى الذى بحث عنه العبقرى بيكاسو وخصص مرحلة من حياته الفنية لتصويره وقدم لوحات المرحلة الزرقاء احتفاءً بأصحاب البصيرة الذين لا يجيدون جزّ الرؤوس ولا يتقنون غرس الخناجر فى بطون العذارى ولا تصويب الرصاص نحو القلب ولا يشاهدون الابتسامات المزيفة .. المجد لبهجة العمى.