بعد أن وصل الصراع مع الإرهاب إلى حد تهديد وجود الدولة المصرية، اضحى التعامل معه يتطلب تضافر جهود كل ابناء الوطن للتعامل بحزم شديد مع هذه المشكلة، وكشف وتتبع البيئة الحاضنة للإرهاب وتفكيكها، لأن المواجهة الأمنية والعسكرية فقط مع الإرهاب رغم أهميتها وضرورتها القصوى لن تؤدى إلى اجتثاث جذور الإرهاب، طالما أن البيئة الحاضنة له موجودة. ويمكن تلخيص البيئة الحاضنة للإرهاب بمصر فى عدة عوامل أبرزها الجهل بصحيح الدين، واتاحة الفرصة امام انتشار الأفكار المتطرفة بين الشباب فى بعض القطاعات التى لا يستطيع رجل الدين الأزهرى التقليدى التفاعل معها. لقد ظل الأزهر على مدى عقود هو المصدر الأساسى لنشر الأفكار والتعاليم الإسلامية فى مصر، ونتيجة لأسباب كثيرة تراجع دور الأزهر فى هذا المجال، فى نفس الوقت الذى بدأت فيه الأفكار المتطرفة تتسلل إلى مصر من الخارج عبر بعض الوافدين ، مثل صالح سرية وهو أردنى من أصل فلسطينى متزوج من ابنة أحد قيادات الإخوان فى العراق، وحاول الإشتراك فى عدة محاولات للاستيلاء على السلطة بالعراق فى الستينيات ولكنها فشلت، وبعد رحلة هروب استقر فى مصر فى بداية السبعينيات وتعاون مع بعض قيادات الإخوان لمهاجمة الكلية الفنية العسكرية لسرقة السلاح منها واستخدامه فى الاستيلاء على الحكم، وقد انتهى الأمر به للإعدام. كما أن هذا المثال يوضح الدور الذى لعبته جماعة الإخوان دوما فى تبنى الافكار المناهضة للمجتمع والمساعدة فى تحويلها إلى سلوك إرهابى، منذ تأسيس النظام السرى برئاسة عبد الرحمن السندى الذى كان مسئولا عن محاولات الاغتيال والتفجير فى الأربعينيات والخمسينيات، وحتى الفكر التكفيرى الذى تبناه سيد قطب فى الستينيات، مرورا بكل جماعات العنف الدينى التى خرجت من تحت عباءة الإخوان منذ ذلك الحين وحتى الآن. وبعيدا عن الإخوان فإن عدم مواكبة كثير من علماء الأزهر لثورة الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة، فى التعامل مع الشباب بعيدا عن النمط التقليدى لرجل الدين، أعطى الفرصة لبعض أصحاب الآراء المتطرفة فى التغلغل فى أوساط الشباب واستقطابهم، خاصة مع تخوف السلطة فى عهد مبارك من الدعاة الجدد الذين نجحوا فى الوصول إلى قطاعات كثيرة من الشباب عبر برامج التليفزيون والأنشطة الاجتماعية، وتضييق الخناق عليهم رغم ما يحملونه من فكر وسطى ، كان يمكن أن يسهم بدرجة كبيرة فى مواجهة الأفكار المتطرفة. ويأتى انتشار الفقر والبطالة فى صدارة العوامل التى تشجع على وجود بيئة حاضنة للإرهاب، وهو ما أكده الدكتور شوقى علام مفتى الديار المصرية بقوله أن هناك جذورًا اقتصادية واجتماعية وثقافية للتطرف الديني الذي يتشكل في ظل الفقر والبطالة وفى الأحياء العشوائية، وهى بيئة لا توفر ضرورات الحياة لمن يعيش فيها، ولا توفر له التعليم الكافي أو النسق الأخلاقي المناسب، مما يسهل اصطياده وتلقينه أفكاراً خطيرة تنسب إلى الدين، والدين منها براء مثل تكفير المجتمع وتبرير العنف، موضحًا أن الدراسات العلمية أكدت أن التنمية الشاملة هي المدخل الحقيقي لتصفية الفكر المتطرف، وأن توفير فرص العمل وضرورات الحياة تهيئ المجتمع للقدرة على محاصرة التطرف. وقد كشف الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء مؤخرا عن ارتفاع نسبة الفقراء فى مصر إلى 26.3% من إجمالى عدد السكان، منهم 4.4% فى حالة فقر مدقع ، مع ارتفاع نسبة الفقراء فى ريف الوجه القبلى إلى 49.4% وحضر الوجه القبلى 26.7% من إجمالى السكان فى تلك المناطق، ولذلك فإن محاربة الفقر وزيادة عمليات التنمية هو جزء اساسى من استراتيجية مكافحة الإرهاب. أضف إلى ذلك ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية والثقافية، وبالتالى انخفاض نسبة الوعى العام، لتصبح الفضائيات ومنها الدينية المتطرفة هى اللاعب الأساسى فى تشكيل فكر ووجدان كثير ممن يعانون من الأمية بنوعيها مع الفقر حليف الجهل والمرض. وفى هذا السياق لا يمكن أن نتجاهل أيضا ما شهدته مصر من مظاهر فساد متعددة خلال العقود الأربعة الأخيرة، وما شكلته هذه الظواهر من إحباط وخيبة أمل لدى كثير من الشباب، الذين وجدوا الملاذ فى الأفكار المتطرفة التى تصنع لهم عالما عادلا حتى ولو ظهر بعد ذلك أنه مجرد سراب. كما لا يمكن نسيان الدور الخارجى فى دعم وتمويل نشر الأفكار المتطرفة وتأسيس التنظيمات الإرهابية، فلم يعد سرا الدور الذى لعبته المخابرات الامريكية وحلفاؤها فى حث الشباب المسلم على القتال فى افغانستان وتسهيل سفره إلى هناك ومده بالمال والسلاح وصولا إلى تأسيس تنظيم القاعدة، وهناك شواهد وأدلة عديدة على استمرار الدعم الخارجى للتنظيمات المتطرفة لأسباب سياسية تتعلق بإعادة تقسيم المنطقة والسيطرة عليها. والمهم فى كل ذلك أن نستوعب جيدا أن أى استراتيجية حقيقية لمكافحة الإرهاب، لابد أن تتضمن خططا وبرامج محددة لتفكيك البيئة الحاضنة له، وهذا ليس دور الحكومة وحدها، ولكنه أيضا دور المجتمع المدنى ووسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والتعليمية، حتى نتخلص من هذا الكابوس. # كلمات: لن تكون متدينا إلا بالعلم .. فالله لا يعبد بالجهل د. مصطفى محمود لمزيد من مقالات فتحي محمود