يدهشنى ويزعجنى فى الوقت نفسه استمرار تأثرنا بفكرة الحصول على شهادة حسن سير وسلوك وابراء ذمة من جهات خارجية، سواء كانت وسائل إعلام، أو منظمات وهيئات دولية، خصوصا إذا كانت أمريكية المنشأ، فتلك خاصية ذميمة كانت مستشرية ومتغلغلة إبان عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك، ولا تزال حية نابضة فى قلب وعقل المجتمع المصرى. والا كيف تفسر رد فعلنا المبالغ فيه على قرار مركز كارتر اغلاق مكتبه فى القاهرة الذى افتتحه قبل ثلاث سنوات؟ فمعظم التعليقات والتحليلات صبت جام غضبها ولعناتها على رأس المركز ومن يديره، وجرى ربطها بمواقف صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية من تطورات الأحداث فى بلادنا عقب ثورة الثلاثين من يونيو، وفى المعية استشرى حديث مؤامرة العم سام على وطننا، ومحاباة إدارة الرئيس باراك أوباما لجماعات إرهابية تكيد لمصر ولا تكف عن نشر المعلومات المغلوطة عما يدور فيها. رد الفعل بدا منه أنه علامة ضعف وليس قوة، وكأنه على رءوسنا بطحة نسعى لإخفائها مع أن الموضوع من أبسط وأيسر ما يكون لو تأملنا جوانبه بأعصاب هادئة وذهن صاف. فالمركز ارتأى أنه غير قادر على متابعة عمله فى المحروسة لأسباب يراها موضوعية من وجهة نظره، وتتلخص فى أن المناخ الموجود فى مصر الآن لا يساعد على توفير البيئة الصالحة للديمقراطية واجراء الانتخابات الحرة، وأن هناك قيودا مفروضة على حركة المجتمع المدنى المصرى، وكذلك المنظمات الدولية. عظيم جدا، فالمركز له مطلق الحرية فى الاعتقاد بما شاء وقول ما يريد، لكن فى المحصلة النهائية ما هو وزنه وحجمه وتأثيره ويتحيز لاى جهة؟ سيقول بعضننا إنه موضع احترام وتقدير فى عالمنا المعاصر وله كلمته المسموعة النافذة فى دوائر صناعة القرار الأمريكى، وذاك صحيح لحد ما، غير أنه واحد من مئات بل آلاف المراكز المنوط بها مراقبة الانتخابات واصدار تقارير يغلب على الكثير منها عدم النزاهة والتحيز لطرف بعينه. ما اود ايصاله أننا وضعناه فى وعاء أكبر من حجمه، واضفنا عليه قيمة تقدير لها أنها فى غير محلها، لكن وكما يقولون رب ضارة نافعة، فحكاية مركز كارتر توضح حقيقة فشلنا فى اظهار حقائق ما يدور فى بلدنا للعالم الخارجى، وهو ما يكشف أن سفاراتنا الخارجية لم يدب فيها بعد النشاط والجد والاجتهاد اللازم للتحرك السريع، والتواصل مع صناع القرار بعيدا عن الصيغة التقليدية المعهودة بتقديم تقارير مقتضبة تبين ما تم انجازه على أرض الواقع، اما إن بحثت عن قدرتنا على الضغط وتصحيح الصورة المشوهة التى تتعمد أبواق الدعاية الاخوانية والأمريكية والغربية رسمها لنا فسوف تكتشف بكل أسف أنها فى أدنى درجاتها. وربما كانت أمريكا النموذج الأبرز على هذا، فعلى الرغم مما يربطنا بها من علاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية حساسة ومهمة لنا ولهم فلن تعثر على ما يمكن وصفه بلوبى مصرى فاعل ومؤثر داخل الكونجرس والبيت الأبيض، حيث تصاغ وتعد السياسات والمواقف. ولكى نحقق هذه الغاية فلابد من ادخال تغييرات جوهرية على طريقة مخاطبتنا الغرب بحيث يصبح تركيزنا على اعلاء صورة مصر القوية الواثقة القادرة على اجتياز مشكلاتها اعتمادا على الذات أولا، فنحن لن ننعزل عن العالم ولن نوقف التعاون معه، فهذا الظن مستبعد تماما، فالقصد أن يتم ذلك من عباءة مصر القوية وليس المهزوزة المنزعجة من اغلاق مكتب احد المراكز مهما علا شأنه ووزنه. ولعلنا نتذكر ما فعله الأب الروحى للنهضة الاقتصادية الماليزية الحديثة مهاتير محمد، عندما ضرب زلزال الأزمة المالية دول القارة الآسيوية فى صيف 1997، فالرجل اخرج العملة الماليزية من سلة العملات، ورفض تطبيق روشتة العلاج الموضوعة بمعرفة صندوق النقد الدولى، آنذاك اتهم مهاتير بالجنون، وأنه يقود ماليزيا للهلاك اقتصاديا وماليا، لكنه خيب ظنونهم وتوقعاتهم، لأنه كان مؤمنا بوطنه وبقدرته على تجاوز الأزمة ذاتيا، وتحقق له ما أراد، والدرس المستخلص أن ارادة الشعوب قادرة على تذليل جميع العقبات مهما كانت صعبة ومستحيلة فى نظر الكثيرين، وهذا ما ننشده لبلدنا. بعدها يجب إعادة صياغة آليات العمل واختيار الكفاءات وأصحاب المناصب القيادية الذين يعهد إليهم بتولى العمل فى سفاراتنا بأرجاء المعمورة، وأن تكون معايير الكفاءة والانجاز مقدمة على ما عداها من اعتبارات. النقطة الثانية الواجب علينا الانتباه إليها فى مشكلة مركز كارتر أنه يتعين النظر فيما سيق من أسباب، فمن الجائز أن تضع أيدينا على جوانب خلل يمكن علاجها، ثم لماذا نغفل مسئوليتنا عما نوجهه من أزمات ومتاعب خلال السنوات الأربع الماضية؟. فمَن السبب وراء تعثر بناء نظام سياسى جديد، ومن الذى انشغل بمعارك جانبية مغرقة فى الشخصنة والانانية، ومَن الذى أسهم فى مكافأة الإخوان بكرسى الحكم لعام ذاقت فيه مصر مختلف ألوان وصنوف العذاب والهوان، ومَن الذى كان يهاجم قوات الشرطة ويكافح لإضعافها والانتقام منها؟ الأسئلة كثيرة ولا تنتهى، فقبل محاسبة الآخرين على اخطائهم بحقنا لنحاسب أنفسنا أولا على اخطائنا، وأن نكون على قدر المسئولية، فحب الوطن ليس أغنية نرددها فى المناسبات وأمام كاميرات الفضائيات، بل عرق ومثابرة وعمل متواصل ومكاشفة مستمرة للعيوب. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي