عندما أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي دعوته للاكتتاب في مشروع قناة السويس الجديدة تباري المصريون ووصلت الحصيلة الى 64 مليار جنيه في أسبوع واحد. وبالتزامن مع ذلك أطلق الرئيس دعوة لمساندة قضية تمس كل أسرة مصرية ألا وهي إصلاح التعليم ... فهل تجد الدعوة الثانية نفس المساندة الشعبية، أم أن إصلاح التعليم أكثر تعقيدا أولا ترى الجماهير فيه أملا يرتجى؟ لقد برهن رئيس الجمهورية على اهتمامه بإصلاح التعليم وخصص وقتا قد يفوق ما وجهه لمشروع قناة السويس العملاق، فقد اجتمع بوزير التربية والتعليم لأكثر من خمس ساعات ثم التقى بقيادات الوزارة وبعدها بأيام حضر الاحتفال بعيد العلم في سابقة هي الأولى منذ سنوات، وأعلن عن بناء 1100 مدرسة وتعيين 120 ألف معلم. والتقى برؤساء الجامعات في حضور وزير التعليم العالي. وفى كلمته احتفالا بعيد العلم لفت الرئيس الانتباه الى أهم عناصر اصلاح التعليم بتناوله دور المعلم في بناء شخصية النشء وتسليحهم بالعلم لحمايتهم من الافكار الهدامة والمتطرفة وبث قيم السماحة والوسطية وثقافة قبول الآخر. هذه الكلمات تعبر عن الهدف من التعليم كما اتفقت عليها دول العالم أجمع بأن يكون موجها نحو تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية، وترسيخ احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، واحترام ذوي الطفل وهويته الثقافية والقيم الوطنية لبلده، وتنمية روح التفاهم والتسامح والمساواة بين الجنسين واحترام البيئة الطبيعية. ومن المنطقي أن ترسم هذه الأهداف برامج إعداد المعلم الذي نأتمنه على عقل ووجدان أطفالنا، مثلما تحدد نوعية الإعداد والتدريب الذي يجب أن يحصل عليه ومحتوى المنهج المدرسي والكيفية التي يدرس بها. إن بناء المدارس وتعيين المدرسين أمر مطلوب لتخفيف كثافة الفصول إلا أنه غير كفيل بمفرده بتحسين جودة التعليم ما لم يسبقه بناء قدرات المعلم كي يساند عملية الاصلاح ويصبح وسيلة جيدة لنقل المعرفة إلى تلاميذه وتحفيزهم على السعي وراءها، ومن المهم أيضا أن يواكب ذلك اصلاح المناهج التعليمية كي تصبح جاذبة تعتمد التفكير العقلاني والمشاركة بالتعبير الحر عن الرأي من خلال تعلم نشط يقوم على الحوار بين المعلم وطالب العلم بدلا من أسلوب التلقين الذي يقتل المهارات في المهد. ولا تخفي علينا الصلة بين اصلاح التعليم والحرب التي يخوضها المصريون حاليا لاقتلاع جذور الإرهاب. لقد أثبت الاقتصاديون أن الاستثمار في تعليم الأطفال هو الأعلى ربحية، لا يقل عائده عن سبعة أمثال. ولا خلاف على أن الدولة أو الحكومة تتحمل المسئولية الرئيسية عن اصلاح التعليم. إلا أن تجربتي على أرض الواقع تقودني للتأكيد على أن الدور الشعبي في الاصلاح هو الأساس في نجاح أو فشل الجهد الحكومي، فالشعب هو الذي يتحمل تبعات تدنى جودة التعليم، وهو الذي يتكبد نفقات الدروس الخصوصية الباهظة ليدرك بعد فوات الأوان أن أبناءه يحصلون على شهادات لا قيمة لها في سوق العمل ولا تحمل مهارات حقيقية تكسبهم قيمة تنافسية. إن هذا الواقع الأليم يجعل من الشعب صاحب المصلحة الحقيقية في اصلاح منظومة التعليم ويجعل الظهير الشعبي هو الضامن الحقيقي لتنفيذ الإرادة السياسية للقيام بإصلاح حقيقي للتعليم والخروج من النفق المظلم. كما أن لكفالة الحق في التعليم شقين متلازمين وبينهما اعتماد متبادل. الأول يتضمن الاتاحة أي بناء المدارس وتعيين المدرسين وتوفير الكتب المدرسية بينما يتمثل الثاني في ضمان الجودة والذي تحكمه معايير مستقرة ومتفق عليها عالميا. وقد انعكس تدنى الجودة سلبا على الاتاحة الحقيقية لقطاعات عريضة من الفقراء الذين صاروا يعزفون عن التعليم لكلفته الخفية ناهيك عن أن تفشي البطالة بين المتعلمين قد أفقد التعليم قيمته المادية والمجتمعية، وأصبح تسرب الأطفال من التعليم مشكلة كبري خلفت بدورها مشكلات باتت مستعصية على الحل مثل ظاهرة أطفال الشوارع وعمالة الأطفال وزواج الأطفال. ويجب الاعتراف بأن هذه المشاكل هي السبب في تراجع ترتيب مصر في التنمية البشرية كما أن التسرب من التعليم هو السبب الحقيقي لتزايد نسبة الأمية لتطال ثلث السكان (29.8%)والسبب هو عزوف المستهدفين عن محو أميتهم. وهو أمر ليس بمستغرب على من اعتاد الأمية. إن استفحال المشكلة يستوجب إعادة النظر في أسلوب تناولها، للتوقف عن التعامل مع النتائج في مقابل التركيز على القضاء على جذور المشكلة وهي التسرب من التعليم. ويبدأ الإصلاح بالإجابة عن سؤال: لماذا يتسرب الأطفال من التعليم ويهجرون المدارس في السنوات الأولى من التعليم؟ الإجابة بسيطة وهي أن المدارس تعجز عن جذب الأطفال للتعليم. إن رفع مرتبات المعلمين وبناء مدارس جديدة لن يؤديا بمفردهما إلى إحداث النقلة المطلوبة إذا ما ظل نظام التعليم يعتمد على التلقين وظل المعلم عاجزا عن التواصل وتوصيل المعرفة الى تلاميذه، وغير قادر على جذب اهتمامهم وتشجيعهم على التفكير والمناقشة والتعبير الحر عن آرائهم فيما يدرسون وفي الطريقة التي يتم التدريس بها، وسيظل التعليم عاجزا عن جذب الأطفال للتعليم إذا ما ظلت المناهج الدراسية على حالها مثقلة بالحشو والتطويل وبمعزل عن التقدم وعن بيئة التلميذ المحلية، تخاصم لغة العصر والطفرة الهائلة التي حدثت في وسائل الاتصال والتواصل. لا يكفي إذن أن نبني المدارس فحسب بل يجب أن نتأكد من أن هذه المدارس توفى الغرض من إنشائها وتحتضن عملية تعليمية حقيقية وأن التلاميذ يذهبون إلى المدارس سعداء شغوفين لأنهم يحصلون على تعليم يحفزهم على مواصلة الدراسة. إن غياب هذه العناصر يوفر التربة الخصبة للسوق السوداء للتعليم المتمثلة في الدروس الخصوصية والكتب الخاصة، ويجعل من بعض المدارس بيوتا مهجورة يهجرها الطلبة والمدرسون إلى دكاكين الدروس الخصوصية الأمر الذي يعد إهدارا خطيرا للأموال التي تنفقها الدولة على التعليم.إن اصلاح التعليم يتطلب صحوة أخلاقية مثلما يتطلب دراسة معايير تخصيص الموارد المالية، فطبقا لتصريح لوزير التربية والتعليم فإن أكثر من 90% من ميزانية التعليم (68 مليار جنيه)تذهب لدفع المرتبات، وهو ما يطرح تساؤلات حول معايير الاستخدام الأمثل للموارد، وإذا ما علمنا أن الرقم المتداول لما تنفقه الأسر على الدروس الخصوصية يبلغ 116 مليار جنيه، نخلص إلى أنه مهما ارتفعت رواتب المعلمين فلن تعوضهم عن العائد المادي للدروس الخصوصية. وهنا تكمن أهمية النظرة الأخلاقية والمساندة الشعبية لمحاولات إصلاح المنظومة التعليمية مثل أن يتخذ أهالي اطفال إحدى المدارس قرارا بالإجماع لمقاطعة الدروس الخصوصية وأن تساندهم الإدارة التعليمية في مراقبة حضور المدرسين وأدائهم في الفصول، وأن نخرج بحلول غير تقليدية للارتقاء بالعملية التعليمية داخل المدارس، وأن يساند هذا التحرك دور واع للمجتمع المدني والذي تمثله مجالس الأمناء التي يتعين عليها أن تمارس دورها الرقابي لضمان الحد الأدنى لجودة التعليم والتأكد من أن ما يدور في المدرسة يحقق أهداف التعليم وفق معايير تم التدريب عليها. ويعد الاعلام القناة التي يتم من خلالها تنشيط الحوار المجتمعي حول سبل اصلاح التعليم، وكشف المخالفات وتشجيع المبادرات الناجحة ويقوم بدوره في بناء ثقافة مجتمعية تتكاتف مع محاولات الإصلاح. ولدينا تجربة مصرية ناجحة للمشاركة المجتمعية في التعليم هي المدارس الصديقة للفتاة والتي وفرت تعليما راقيا لأفقر الفقراء وأفردت لها منظمة اليونيسيف إحدى مطبوعاتها كي تستفيد منها دول العالم. فهل نحلم بمساندة شعبية لإصلاح التعليم مثل تلك التي حظي بها مشروع شق قناة السويس الجديدة؟ لمزيد من مقالات د. مشيرة خطاب