رئيس «أسيوط» يشهد احتفال «الدول العربية» بتوزيع جائزة محمد بن فهد    خطاب التنصيب من الاتحادية للعاصمة الإدارية.. سنوات من البناء    القاصد يستعرض الخطة الاستثمارية لجامعة المنوفية    شراكة بين «حياة كريمة» وشركة «روش للأدوية» لدعم القرى الأكثر احتياجا    عاجل |استقالة مسؤول كبير بوازة التموين تكشف ملامح الوزير الجديد    «درَّة التاج»| العاصمة الإدارية.. أيقونة الجمهورية الجديدة    البرلمان العربي: عجز العالم عن وقف إبادة غزة يعيدنا لعصور الظلام    «مُحاربة الشائعات».. وظيفة تنقذ انتخابات البرلمان الأوروبي    أستاذ قانون دولي: أمريكا تعاقب 124 دولة أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية    وزراء مالية منطقة اليورو يؤيدون موقف مجموعة السبع بشأن الأصول الروسية    تدريبات علاجية لأحمد فتوح في الزمالك    «عشان ما أروحش الزمالك».. حسين على يكشف كواليس انتقاله إلى الأهلي    المراجعة النهائية في مادة الكيمياء للثانوية العامة 2024.. 46 سؤالا مهما    أمين الأعلى للآثار يتفقد تجهيزات معرض «قمة الهرم» بالصين.. فرصة للترويج السياحي    محمد عادل إمام يطرح البوستر الرسمي لفيلم اللعب مع العيال    «الكراش» ظاهرة تحتاج المراقبة    هل يجوز صيام العشر من ذي الحجة متقطع؟ أمين الفتوى يُجيب    أمين الفتوى بدار الإفتاء: الدعاء مستجاب في روضة رسول الله    «الصحة».. صمام الأمان    نور تحكي تجربتها في «السفيرة عزيزة» الملهمة من مريضة إلى رائدة لدعم المصابين بالسرطان    رئيس الجمعية الوطنية بكوت ديفوار يستقبل وفد برلماني مصري برئاسة شريف الجبلي    الداء والدواء    هل يجوز ادخار الأضحية دون إعطاء الفقراء شيئًا منها؟ الإفتاء ترد    وزير الطاقة ونائب أمير مكة يتفقدان استعدادات موسم حج 1445    إنقاذ حياة كهربائي ابتلع مسمار واستقر بالقصبة الهوائية ببنها الجامعي    أمين الفتوى بقناة الناس: الدعاء مستجاب فى هذا المكان    الخارجية الروسية: العقوبات الغربية لم تتمكن من كسر روسيا وفنزويلا    الداخلية: إبعاد سوريي الجنسية خارج البلاد لخطورتهما على الأمن العام    وزير الصحة يبحث مع نظيرته الأوغندية سبل التعاون في القطاع الصحي    خالد الجندي: الفتوى تتغير باختلاف الزمان.. يجب الأخذ بما ينفعنا وترك ما لا يصلح لنا    محمد كمال ل"الناس": لابد من أداء هذه الصلاة مرة واحدة كل شهر    أميرة بهى الدين تستضيف أكرم القصاص فى "افتح باب قلبك" الليلة    فوز الدكتورة هبة علي بجائزة الدولة التشجيعية 2024 عن بحث حول علوم الإدارة    السبت أم الأحد؟.. موعد الوقفة وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2024    «الأطباء» تعلن موعد القرعة العلنية ل«قرض الطبيب» (الشروط والتفاصيل)    بفرمان كولر.. الأهلي يستقر على ضم 3 لاعبين في الصيف الجاري    رحلة البحث عن الوقت المناسب: استعدادات وتوقعات لموعد عيد الأضحى 2024 في العراق    آخرهم أحمد جمال.. نجوم الفن في قفص الاتهام    "معلومات الوزراء": التقارير المزيفة تنتشر بسرعة 10 مرات عن الحقيقية بمواقع التواصل الاجتماعي    الجريدة الرسمية تنشر قرار محافظ الجيزة باعتماد المخطط التفصيلى لقرية القصر    الامارات تلاقي نيبال في تصفيات آسيا المشتركة    وزير التنمية المحلية: مركز سقارة ينتهي من تدريب 167 عاملاً    وزير الري يبحث مشروعات التعاون مع جنوب السودان    تكريم الطلاب الفائزين فى مسابقتى"التصوير والتصميم الفنى والأشغال الفنية"    يتناول نضال الشعب الفلسطيني .. عرض «علاء الدين وملك» يستقبل جمهوره بالإسماعيلية    النشرة المرورية.. خريطة الكثافات والطرق البديلة في القاهرة والجيزة    لإحياء ذكرى عمليات الإنزال في نورماندي.. الرئيس الأمريكي يصل فرنسا    برلماني: توجيهات الرئيس بشأن الحكومة الجديدة رسالة طمأنة للمواطن    محافظ القليوبية: تطوير ورفع كفاءة 15 مجزرًا ونقطة ذبيح    وزارة العمل تعلن بدء اختبارات الشباب المتقدمين لفرص العمل بالإمارات    مندوب فلسطين الدائم ب«الأمم المتحدة» ل«اليوم السابع»: أخشى نكبة ثانية.. ومصر معنا وموقفها قوى وشجاع.. رياض منصور: اقتربنا من العضوية الكاملة بمجلس الأمن وواشنطن ستنصاع لنا.. وعزلة إسرائيل تزداد شيئا فشيئا    حزمة أرقام قياسية تنتظر رونالدو في اليورو    محافظ كفر الشيخ يتفقد موقع إنشاء مستشفى مطوبس المركزي    بتقرير الصحة العالمية.. 5 عناصر أنجحت تجربة مصر للقضاء على فيروس سي    قافلة طبية جديدة لدعم المرضى غير القادرين بقرى محافظة أسوان    فليك يمنح قبلة الحياة لفيتور روكي مع برشلونة    رئيس إنبي: اتحاد الكرة حول كرة القدم إلى أزمة نزاعات    عبدالله السعيد: تجربة الأهلي الأفضل في مسيرتي لهذا السبب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطيب صالح
إشكالية السلف والموروث

تعددت تجليات علاقتى والناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش، إذ كانت مفعمة بالحوارات الصاخبة حول قضايا الأدب والفن، وحافلة بالنقاط الاشارية الدالة على مصادر المعرفة التاريخية والمعاصرة، ومزدحمة بالآراء، التى لم يك الرجل يتوقف أو يحجم عن أبدائها فى كل شىء تقريبا، وبجمل قصيرة مدببة الرءوس تبدو – عند سماعها للوهلة الأولى – أحكاما نهائية لا نقض فيها ولا إبرام ولا تلبث تخاصم الاطلاقية، مشيحة وجهها عن طبائع الاستبداد، ومفصحة عن نسبية فيها غواية واستدعاء كبيرين للحوار والمناقشة.
ثم أن الأستاذ رجاء النقاش كان – بالنسبة لى – عرابا ودليلا قادنى إلى معرفة رهط كبير من المثقفين والمبدعين العرب منهم محمود درويش وتوفيق زياد، وسميح القاسم، وأميل حبيبى، ومحمد بنيس، وعبد الوهاب البياتى.. وعلى أهمية وثقل وارجحية كل أولئك أجمعين وغيرهم كثر، فإن صنيعا كبيرا احمله لرجاء النقاش كونه كان بوابتى إلى معرفة الأديب السودانى الرائع الطيب صالح الذى جمعتنى به علاقة مدهشة ملمحها الأكثر حضورا هو قدرتها الدائمة على التجدد، لا بل وعلى اكتشاف أسباب تلو أسباب لذلك التجدد، فى عشرات من الحوارات جمعتنى بالطيب فى مصر وبريطانيا، سواء عند حضوره السنوى دورات معرض القاهرة الدولى للكتاب أو خلال لقاءاتنا فى لندن وأكثرها كان فى صالون التدخين بنادى السيارات الملكى التاريخى بحى (مال) خلف قصر ملكة بريطانيا الأم.
نهايته.. كنت على موعد وفنجان قهوة مع رجاء النقاش فى فندق (مريديان) الرابض على مقدمة جزيرة الروضة الشمالية، وحكى لى فى تلك الجلسة عن ملاحظاته على دورة معرض الكتاب آنذاك، ثم عند لحظة الانصراف سألنى (بغتة): «أتريد مقابلة الطيب صالح»؟! فأجبته – من فورى وبحماس كبير -: (ياريت) ووجدته يمسك ذراعى بقبضة كفه الصغير، ويدفعنى إلى المصعد ثم إلى جناح مطل على «فراندة» نيلية ساحرة حيث يقيم الطيب، وقد استقبلنا حافيا، لابسا جلابية سودانية وعمامة بيضاوين كالفل، وما كاد الأستاذ رجاء يعرفه بى، حتى صاح: «يا عم عمرو.. إية حكايتك؟.. أنا كلما قابلت أحدا فى القاهرة كلمنى عنك قائلا: أما فيه شاب عفريت وشاطر لازم تعرفة يا طيب» وضحك الأستاذ رجاء مخاطبا الطيب: «ادى إحنا قبضنا لك عليه»!
وشعرت برضا غامر وانتفخت اوداجى كون كبار مبدعى العالم العربى صاروا إذا زاروا القاهرة يسمعون عن: (الولد العفريت الشاطر)، وتشجعت – بروح عملى وربما انتهازي – لأطلب ومنذ الدقيقة الأولى إجراء حوار مع الأديب السودانى الذى قرأت له – حتى ذلك الحين – (موسم الهجرة إلى الشمال) و(ماريود) و(بندر شاه) وعشرات من الحوارات الصحفية والمقالات.
ولدهشتى فإن الطيب صالح وافق فورا – مستأذنا رجاء النقاش فى أن يجرى الحوار بحضوره، قبل أن يذهبا معا إلى موعد عشاء سيجمعهما بزرافة من المثقفين، ثم ادهشنى الطيب – مرة أخرى – حين أبدى ملاحظة قبل أن نبدأ ضاغطا فيها على حروف الكلم مؤكدا أنه أكبر من يحب مصر من المثقفين العرب ولكن: (كون مصر هى المركز فى الثقافة العربية لا يعنى أن المصريين فقط هم المبدعون.. وليس كل مبدع مصرى زعيما لكل مبدع عربى لمجرد أن مصر هى زعيمة العالم العربى)!!
وبدا ذلك المدخل مغريا جدا لحوار لاهب استعرض فيه بعض ما بى من «العفرتة» التى سمع الرجل عنها قبل أن يرانى، ولكن فكرة أخرى كانت تشدنى من ياقة قميصى وتفك رباط حذائى، وتدوس على أصابع قدمى، وكأنها العفريت (بوك) فى (حلم ليلة صيف).. أعنى بها إشكالية حضور السلف والموروث فى الأدب العربى، إذ كانت تلك الخاطرة تعنى كلاما مباشرا فى (موضوع الإبداع وجوهره)، أما الجدل حول الزعامة الثقافية فهو أشبه بمباراة كرة شراب تدور فى إحدى الساحات الشعبية ويتطلع فيها أفراد كل فريق سواء (الأسد المرعب) أو (الكتكوت المفترس) لتحقيق انتصار تختلط فيه أوراق (الحماسة الوطنية وتفضيلاتها) و(المقدرة الإبداعية واعتباراتها).
وهكذا وجدتنى أسائل الطيب صالح فيما اخطف نظرة وراء أخرى إلى رجاء النقاش لأرى وقع ما اردد على ملامح وجهه التى كانت – بطبيعتها – واشية على نحو يكفى لتنبيهى أو مراجعتى إذا احتجت أحدهما أو كليهما.
وطرحت قضيتى التى – ربما لم احددها إلا داخل المصعد فى الطريق إلى جناح الطيب - مفصلها على النحو التالى:
• يخجل الأدب العربى فى كثير أجزائه من التراث، ويخضع لالزامات التقاطع مع الموروث كون تلك الالزامات تفرض نفسها من خلال المواجهة مع القوى السلفية، فيما صار ذلك الموروث يرتبط بالمناخ الذى يشيعه عن العودة إلى الماضى .
• وبعض المواجهة مع الموروث يأتى من منبع الخضوع والتسليم المطلق – بلا قيد أو شرط – لطغيان وتأثير الغرب الذى يبشرنا – فيما يبدو – بزوال وتآكل «السيادة السياسية»، بعد أن أفضى بنا إلى تلاشى «السيادة الثقافية».
وما أن وضعت القضية على ذلك النحو حتى وجدت الطيب صالح يحتشد مستبقا استكمالى لطرح الملف، قائلا: «سأحاول تناول عنصرين أو ثلاثة لأن سؤالك – فى الحقيقة – عميق ومعقد، وملم جدا، بل ولعله السؤال «المهم» حين نلمح بوادر قطيعة مع التراث.
أنا – شخصيا – أرى أن هناك سوء فهم للتراث فى الساحة الفكرية والثقافية العربية.
نحن – كثيرا ما نتحدث عن التراث بوصفه شيئا قديما فحسب.. نحن نراه عفشا عتيقا، أو كراكيب انتيكة فى غرفة مهجورة من بنائنا الحضارى المعاصر، وربما نفتح هذه الغرفة – أحيانا – لنأخذ منها كرسيا ما زال صالحا للاستعمال!!
الموروث – فى حقيقته – يعيش فى ذواتنا، فكل فرد هو عبارة عن امتداد – كما نعلم – للتاريخ الذى يتضمن فيما يتضمن: (السلالة – الچينات – الموروث الفكرى والروحى..)، وقد تطغى أشياء على أشياء فى تلك المنظومة طبقا للسياق أو المحيط الزمنى أو الجغرافى أو الثقافى أو الاجتماعى الذى ندرسها فيه.
يعنى أنا أعيش فى لندن.. ولكننى سودانى قادم من منطقة الوسط فى شمال السودان، وأحيانا أنسى أننى قادم من ذلك المكان وأتصرف كانجليزي لكى أتواءم مع المجتمع، ولكننى – الحق.. الحق – احمل تراثى داخل نفسى.
الذين يحاولون القطيعة مع التراث يفعلون ذلك، بأن يدفعوا ثمنا غاليا جدا، فهم يكتمون شيئا أو أشياء فى ذواتهم، على حين لا يستطيع احدهم الادعاء بأن هذا الشىء معدوم أو غير موجود.
من جهة أخرى، فإن هناك من يفسرون التراث تفسيرات – ربما – لا تصلح للعيش فى هذا الزمان.. هناك من يغالون فى تفسير ذلك التراث، ومع ذلك فهو (موجود)، وهناك – بسبب – هذا الوجود – نوعا من الديالكتيك (الجدل) بين الحاضر والماضى، والأدب والفن هما ساحة مثالية لوجود هذا الجدل.
إن رواية واحدة قد تختصر أطنانا من الورق والحبر، يسطر فيها المؤرخ أو الاكاديمى علمه التاريخى والسياسى.
وهى تفعل – ذلك – عبر الحدس الموجود عند الفنان، وعبر حوار مع الحاضر والماضى ومحاولته الإجابة على أسئلة المستقبل.
ثلاثية نجيب محفوظ أغنت الناس عن قراءة موسوعات تاريخية وسياسية كاملة.. وكذلك أرى فى قراءة بلزاك استغناء عن قراءة الكثير من كتب التاريخ، وبصراحة أنا لم افهم فرنسا المعاصرة إلا بعد أن تعمقت فى قراءة بلزاك!
........................
ولقد تعودت – منذ بواكير الصبا وحتى اشتعل الرأس شيبا – أن ألجأ فى مثل تلك الحوارات حين أجريها إلى اعتبار بعض الزوايا والملفات (مزمنة) أعاود طرحها فى كل مرة التقى فيها من حاورته عنها وحولها.
والحقيقة أن موضوع السلف والتراث – ربما – كان الأكثر إلحاحا فى حواراتى مع الطيب، ولقد شهدت مواقع كثيرة فى العاصمة البريطانية بعضها حين يأتى الربيع أو الصيف ونجد فينا القدرة على الخروج إلى «ريچنت بارك» أو «ميدين هيد» أو «وندسور»، ونترك لأنفسنا الحبل على الغارب فى مناقشات لا نفرغ منها حتى تهد حيلنا.
وقد سجلت بضعة أوراق عن أحد تلك الحوارات عام 1998 سألت فيه الطيب: «سأستعيدك – الآن – إلى نص سؤال قديم جمعنى بك – مرة – فى نادى السيارات الملكى، وهو يختص بالتراث والسلفية وبيقين نحن نحتاج إلى تعميق مناقشتنا حوله، فالتعرض للتراث يسحبنا – أحيانا للمواجهة معه فى أثناء رفضنا للسلفية، كما أن انجرافنا إلى التأثر بالغرب أو التفاعل مع الغرب، أو الانجذاب إلى الغرب يدفعنا إلى زوال السيادة الثقافية فهل تؤمن بمثل تلك المقولات؟
وخلع الطيب نظارته الطبية فى لازمة حركية يأتيها كثيرا، ودعك قبتى عينيه بطرفى إبهامه وسبابته، ثم اجابنى بحسم:
«فى هذه المقولات جانب صحيح لا ينكر، نحن نرفض التطرف فى السلفية بفهمنا – نحن – للتراث، وليس بمواجهة المتطرفين بشىء غير موجود.
النصوص المقدسة تتعرض – أحيانا – لأن يفسرها الناس بطرق مختلفة – ربما – لا تمثلها، ونحن نعلم أن هناك أناسا برروا القتل والإرهاب باسم القرآن الكريم، وذلك خطأ كبير وينبغى أن نواجههم بتلك الحقيقة، ونقول إن آيات القران الكريم تنكر هذا النهج نكرانا شديدا، فمن أين أتيتم بفكرة الدمار والقتل والإرهاب، وتصورتم أنها وسيلة مشروعة لإقامة مجتمع فاضل؟!
هذا قياس منطقى مرتبك وفاشل تماما، يقوم على أن المجتمع الصالح يمكن أن يولد وينمو عبر كل هذه الشرور والآثام التى يرتكبها التطرف، وتحضرنى – فى هذا السياق – مقولة لزياد بن أبى سفيان، أو زياد بن أبيه، عندما عُين واليا على أهل الكوفة، فقال لهم: (والله لنخوض إليكم الباطل خوضا حتى تصل إلى الحق فيكم)!
هذه الجملة تعبير بليغ جدا عن الاستبداد، ولعل التطرف وجد ضالته المنشودة فيها، وقد كان عبد الملك بن مروان هو أستاذ هذه السياسة، إذ كان ذلك الخليفة يبرر أى شىء فى سبيل تدعيم الملك.. فكان – بالضبط – مثل التطرف الذى يبرر أى شيء فى سبيل الوصول إلى الملك».
وأضاف الطيب صالح – فيما بدا وكأنه محاولة للامساك بتلابيب الطرف الآخر من السؤال-: «أما ما يخص الغربنة Westernization وعلاقتها بزوال السيادة.. فقد جعلنا من تلك الغربنة مشكلة، إذ لو نظرنا – مثلا – كيف تعامل اليابانيون مع القضية، سنجد أنهم لم يأخذوا ما يسمى الصفقة على بعضها (Package – deal) من الأمريكيين، وإنما اخذوا ما يناسبهم فقط.. التكنولوجيا هى معرفة إنسانية تراكمية وعلمية.. الانجليز، واليابانيون والفرنسيون والأمريكان، استفادوا منها، وأضافوا اختراعاتهم الجديدة، ونحن – أيضا – استفدنا منها ولكننا نسينا أنفسنا.. حدث انقطاع فى ذهننا، وفى تاريخنا، وفى مساهمتنا الإنسانية، وصرنا ننظر إلى كل شىء وكأنه هابط علينا من السماء، بالإضافة طبعا – إلى إحساس عميق بالدونية.
نحن مساهمون فى الحضارة المعاصرة، وإذا رجعنا إلى تاريخنا، سنجد إسهامنا واضح فى العلوم والفلسفات والرياضيات..
لقد ساهم الغرب فى النهضة وعصر الإحياء الأوروبيين مساهمة كبيرة جدا، ولكننا نسينا كل ذلك وأصبحنا متلقين ومستهلكين فحسب.. وهنا فإن من الأشياء المهمة جدا التى يضطلع بها الفن والأدب، إيقاظ الذاكرة الجماعية للأمة.. لابد أن تتذكر الأمة أنها ليست بتلك الدونية أو بهذا التأخر، وأنها – بالقطع – صاحبة اكتشافات ومغامرات علمية ووجدانية وذهنية»!
وقلت للطيب: أخشى ما أخشاه أن يكون ما تحدثت به – الآن – عن تذكير الناس بالماضى هو التصاق بمشروع سلفى حتى وإن لم يك دينيا.
فاجابنى – منتفضا -: «لا.. لا».
«عندما توقظ ذاكرة الناس بشأن الجوانب المضيئة والايجابية فى حضارتنا فأنت لست سلفيا.. أنا أريد إذكاء وإفشاء (حالة حوار) بيننا وماضينا.. وحتى ذلك الماضى لم يك وحدة واحدة، وإنما كان يموج بحوارات كثيرة، ونحن نعلم أن ابن رشد فى الأندلس دخل فى صراع مع الفقهاء، على حين كان هو نفسه فقيها.. والحوار مع ذلك الماضى، قد يكون خلقا لحالة وصل مع التعددية التى كانت موجودة فى بعض جوانبه، وربما يكون إعادة إنتاج للمواجهة مع الإرهاب.
الإرهاب ليس – فقط – ماديا بالذبح وبالدماء، ولكن الإرهاب – ربما – يكون فكريا كذلك.. هناك من يخيفون الآخرين من قول ما يظنون أنه الحق، لابد من إيجاد مناخ يقول فيه كل إنسان رأيه بأمانة، حتى نصل إلى كلمة سواء، وإلا سوف يجئ فصيل ما، أو زمرة ما ويفرضون علينا وجهة نظرهم فى حين هى ليست أكثر من (وجهة نظر).
وعلى سبيل المثال، لا يوجد شيء يجعل الدكتور حسن الترابى أفضل من العبد الفقير إلى الله تعالى الطيب صالح.. لى اجتهادات مثله.. قرأت الكتب التى قرأها.. لا بل وهناك فى السودان ناس أفضل منى كثيرا، ولديهم وجهات نظر جديرة بالاحترام، فكيف يأتى واحد له وجهة نظر معينة، ويشهر السيف، ويقول للناس: (والله لنخوض إليكم الباطل خوضا حتى نصل إلى الحق فيكم)، مثلما قال زياد بن أبيه، ومثلما أرسى عبد الملك بن مروان قواعد تلك المدرسة السياسية، وربما يكون الترابى أذكى من أن يقول ذلك علانية، ولكنه – فى النهاية – ينفذه على الأرض».
....................
وفى لقاء آخر جمعنى بالطيب صالح فى قصر «برنت أوك» جنوب لندن وجدت أن هناك جانبا آخر من ملف (التراث) يحتاج إلى استكمال وأعنى به ما يرتبط بالفن والإبداع وليس بالفلسفة والسياسة.
وجلسنا على حافة نهير صغير، فيما طلبنا من النادل أن يعد لنا منضدة ومقعدين، وما أن تجهز ما طلبناه حتى اتخذنا جلستنا فى مواجهة بعضنا البعض، وقررت أن أبدأ – مباشرة – بطرح فكرتى فقلت للأديب السودانى الكبير: ما زالت أكثر المواقف زيفا تتسربل بأكثر الشعارات نبلا، ومازالت القضايا الحقيقية فى ساحتنا الأدبية والإبداعية تقاتل قتالا باسلا ضد القضايا الوهمية التى يثيرها أنصاف الموهوبين، ومازالت همومنا الحقيقية (ثقافة وإبداعا) تبدو بعيدة وسط ضجيج الزيف وأضواء الوهم، وبين ذلك كله تبرز صرعة جديدة فى الرواية العربية، ولم نعد نستطيع أن نميز بين الزيف والصدق فيها، أو بين الحقيقة والوهم، وهى صرعة النهل من التراث: (شكلا ومضمونا وأحيانا أسلوبا)، فهل تتصور أن سيادة مثل ذلك اللون من الأدب تجنى على مساحة الإبداع عند الروائى العربى؟
والواقع أننى – دائما – أبحث عن إجابات مثل ذلك السؤال، لأنه يعكس – بوضوح – تجربة من أسأله، وهو ليس تعبيرا عن رأى أو انطباع، ولكنه خلاصة وعبرة حياة بأكملها يستقطرها المجيب فكأنه يسطر – بذاته – شهادة عن رؤيته للإبداع.. ولم يخيب الطيب صالح مقصدى، واعطانى – بالفعل – إجابة فيها ما اعتبره فاتحة فصل لمناقشة ذلك الموضوع عند عدد من كبار الأدباء والمبدعين، وقال:
«خواطرك أثارت فى نفسى قضية صعبة وهامة.. وهى صعبة ومهمة لأسباب عديدة، فقد كنا لسنوات طويلة ننادى فى ميادين كثيرة بالعودة للتراث، ولكننا اقتربنا – ربما أكثر مما ينبغى – فى هذا المضمار!
فعندكم – فى مصر – جمال الغيطانى الذى يعد رمزا من رموز الاهتمام بالتراث، وقد قرأت له (وقتها.. يعنى من حوالى عشرين عاما) الجزء الأول من التجليات، وأراها محاولة طيبة، وأنا – نفسى – استندت إلى التراث السودانى فى رواية (بندر شاه) وبالذات فى الشكل أو (الفورم).. وبالقطع فإن تلك المحاولات قائمة على فهم وعمق، وليست مجرد اقتراب سطحى يسعى فيه أديب إلى اقتباس (الفتوحات الملكية)وإنشاء رواية على غرارها، أو تقليد الجبرتى، أو الضيف الله، ولكنها محاولات ذهبت أبعد من ذلك، واعتقد أن الأدب العربى سيكسب كثيرا من هذا النهج وبخاصة محاولاته الجادة.
وربما يصعب جدا وضع حدود معينة لهذا المنهج، ففى مجال الأدب والإبداع ربما تحدث ظاهرة، وتنجب تلك الظاهرة أعمالا ناجحة، ويبيت العمل الناجح هو المبرر الوحيد لنفسه، وأنت تعرف أن شكسبير كسر الكثير من القواعد، واستعمل اللغة استعمالات مختلفة، وقبله الناس، وقالوا: هذا أدب حسن.. ربما بعد مدة.. وربما بطريقة غير مباشرة، ولكن التأثير يبقى واحدا.. حدود النهل من التراث تقفز صالبة متاريسها، حينما نكون بصدد محاولة لأديب ليس لديه الأدوات الكافية، وهو يقوم بالتعرض للتراث أو النهل منه على سبيل (اللعب العاجز).. الأدب صناعة وأظن أن هناك من لا يفهمون هذه المسألة تماما.. الكاتب – مثل الحداد أو السمكرى أو البناء – له حرفة، وتلك الحرفة تستوجب حدا أدنى من المعرفة بالأدوات، ولا اعتقد أن أيا منا يمكن أن يأتى بواحد من الشارع ويقول له: (هيا.. ابن لى بيتا)!
لو جاء إنسان ليكتب رواية معتمدا على التراث بينما يتمتع بمعرفة كافية بأدواته، وإلمام عميق أو معقول بالحرفة، وله ثقافة كافية، فإن التجربة قد تكون مفيدة، أما لو جاء شخص آخر وآخذ الأمور بسطحية كما يفعل الكثيرون، خاصة فى الشعر، فالأمر يختلف.. الرواية - بطبيعتها – عمل معقد يفرض لونا من الانضباط أما فى الشعر فكثير من الشعراء الشبان انساقوا للألاعيب فى شكل القصيدة استنادا إلى ما يظنون أنه تراث، فنجد من يكتب: (مرثية للمتنبى) أو (تحية لأبى العلاء).. وعموما فسواء فى الشعر أو الرواية، فإن أصحاب ذلك المنهج من الصعب أن يضيفوا شيئا.
وأنا أظن – الآن فيما أرى – وقد أكون مخطئا أن هناك اتجاهين يتبلوران فى شكل الاستقطاب (كما يقول إخواننا فى الفكر السياسى):
• الاتجاه الأول: هو (التحديث) ويدخل فيه كل ما تعنيه هذه الكلمة من الاتجاه نحو أوروبا ونحو التكنولوجيا، ونحو الأشكال الجديدة ونحو الحياة المعاصرة.
• الاتجاة الثانى: وهو يتبلور أكثر فى مواجهة هذا التحديث، وصلبه هو الاستناد إلى الماضى، والى منابع ثقافتنا ووجداننا، وأنا لا اعرف ماذا يريد المجتمع؟، وأين يقع اختياره بين الاتجاهين؟! لعله يريد الاثنين فى وقت واحد.. وأرى أن هذا يعد مجالا للدراسة، ويمثل حالة غريبة والمجتمع – أحيانا – قد يريد شيئين متناقضين فى وقت واحد، ولعله يريد مزايا الحديث، وفى نفس الوقت مظهر القديم، ومن الناحية الحضارية مازال مفكرونا فى مرحلة بلبلة روحية وفكرية بين الاتجاهين».
.......................
ونقر الطيب على طرف فوطة ورقية كنت أسجل عليها بعض ما ورد فى الحوار، محاولا تنبيهى إلى ما سوف يتلفظ، وقد قال:
«أرى فى عينيك تساؤلا يطرح حالتى (أدبيا) وعلاقتها بالتراث، والصعوبة التى يمكن أن تولدها رغبتى فى الجمع بين المتناقضين (التحديث والأصالة) معا!!
وواقع الأمر أن كتابتى هى تعبير عن حيرتى، فليس عندى حل الآن.
اشعر أننى شراع تدفعه رياح الرغبة فى البحث فوق بحر الإبداع، أمشى على غير هدى، ولكننى إذا اكتشفت شيئا أحكى للناس عنه.
البعض – تحت وطأة حيرته – قد يحاول قبول التناقض بدلا من حسمه، فأنا – شخصيا – رجل (مسلم – افريقى – نوبى – زنجى - اوروبى) وبالتالى من الصعب جدا القول (أنا كذا فقط) واقتصر على ذلك الكذا»!
..............................
نعم.. هو شراع دفعته رياح الرغبة فى البحث فوق بحر الإبداع، وطوال رحلة علاقتنا التى بدأت على يدى رجاء النقاش كنت أشعر بالقلق الساكن والحيرة الهادئة وقد عكستهما مجموعات من القضايا على امتداد عشرات اللقاءات والحوارات، وإحداها إشكالية السلف والموروث.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.