تجسد الفلسفة الوجودية أعتى دفاع عن الذات الفردية وحقها فى الحضور والتأثير والفعالية، حيث الحرية الإنسانية تسبق ماهية الإنسان وتجعلها ممكنة، ومن المستحيل تمييز الحرية كنشاط إرادي، عن الإنسان ككائن واقعي. غير أن تمييزا ضروريا يصبح مهما بين موقفين وجوديين: أولهما مفهوم (الدازين) لدى هيدجر، حيث الإنسان مجرد (موجود ذ هناك)، ألقى به فى العالم ليعانى الاغتراب فى الواقع والقلق إزاء المصير. وثانيهما مفهوم (الوجود لأجل ذاته) حيث تمكن الإنسان من امتلاك وجوده الذاتي، بتوقفه عن الإنصات إلى الناس وثرثرتهم، ونزوعه إلى انتاج وعيه الخاص، ضمن صيرورة دائمة للتعلم يسميها هيدجر ب (التصميم). هذا التصميم هو الحرية التى تخلص (الموجود - هناك) من سطوة الناس، ولكنها لا تخلصه من سطوة الطبيعة. ولا نظن أن هذا الفيض الإشعاعى الواصل بين الإنسان وخالقه أمر مختلف عن تلك الروحانية العميقة الواصلة بين المؤمن والحقيقة الإلهية. غير أن تلك الروحانية غالبا ما يستقبلها المؤمن بطريقتين مائزتين: الأولى تعكس نوعا من (الزهد فى العالم)، ذلك الزهد السلبى المغترب، المألوف والتقليدى المضمن فى ظواهر تاريخية معروفة. والثانية تعكس نوعا من (الزاهد داخل العالم)، ذلك الزهد الإيجابى فى مادة العالم، المصحوب بالتأكيد على قيمه الباطنة وغاياته الأسمي، وفى قلبها (الحرية) التى هى روحانية التاريخ وغايته بحسب هيجل. وهنا يمكن استدعاء تقسيم دينى يوازى التقسيم الفلسفى على صعيد الفاعلية الإنسانية بين طريقتين للوجود يندرج المؤمن فى سياقهما: أولهما (الوجود فى العالم)، حيث يكون المؤمن مجرد ذرة فى التيار الدافق لحركة العالم، على منوال (البوذى التقليدي، والمسيحى القروسطوي، والمسلم الدرويش) وجميعهم نموذج للإنسان (الزاهد فى العالم)، ولكنه الزهد السلبى المغترب، الناجم عن نوع من الوجود الساكن ينسبه بعض الفلاسفة والمفكرين، خصوصا برجسون، إلى ما يسمونه الدين الساكن، غير أننا نتحفظ هنا على مقولة الدين الساكن بإطلاق، فى مقابل الدين الدينامى بإطلاق. فثمة أديان تميل إلى السكون (كالمسيحية والبوذية) ولكنها عرفت مراحل تاريخية وتحولات كبيرة وظواهر عديدة اتسمت بالدينامية. وثمة، فى المقابل، أديان ذى طابع دينامى بالأساس (كالإسلام) ولكنها عرفت ظواهر زهدية ومراحل مغتربة اقتربت بها أحيانا من حالة السكون. وثانيهما هو (الوجود داخل العالم)، حيث المؤمن هو ذلك الإنسان الحر، الذى يحمل على عاتقه ثقل العالم بأكمله، معتبرا نفسه المسئول أخلاقيا عنه. إنه لم يتحول إلى مجرد ذرة فى خضمه، يفتقد للحضور والتأثير والفعالية، ولكنه لم يصبح مترعا بدنيويته بعد، بل يبقى متساميا فيه، لدرجة تمكنه من الشهود عليه، حيث (الزهد داخل العالم)، يولى للحرية الإنسانية قيمة تعلو على الأشياء والموجودات لتصير بحق جوهرا للوجود الإنساني. وهكذا تمنح الخبرة الدينية للنزعة الفردية مسوغات جديدة، تنبع من أصل إيماني، فإذا كانت الحرية الوجودية هى جوهر الإنسان، الذى يضمن له الشخصية المائزة، ويحول دون ضياعه فى ذوات الآخرين عبر تحريره من ضغوط الجماعة المحيطة به، ومن تكتلات الناس والمصالح المنتشرة حوله، فإن الحضور الإلهى فى العالم يمثل رافعة جوهرية (ميتافيزيقية) لتلك الحرية الوجودية، تدعم إنسانية المؤمن، وتحرره من عوامل قلقه . وعلى العكس من نيتشه فى بيانه العدمى، كضرورة لازدهار الإنسان، حيث الإيمان ب (إله خالق)، وانتظار العناية الإلهية، ليس إلا خنوعا وتضحية بكل ما لدى الإنسان من وجود فردي، ومن حرية وكبرياء، رأى باول تيليش، الوجودى البروتستانتي، أن هذا الإيمان كان ضرورة لتأسيس علاقة وجودية فعالة بين الإنسان والله، قادرة على أن تمد الإنسان باليقين والأمل فى الخلاص. ولعلى شخصيا، كمؤمن توحيدى أتفق مع تيلش على جوهر العلاقة التى يرسمها بين الله والإنسان، كوسيلة مثلى لفرح أبدى، وتواصل وجودى، ولكننى أختلف معه، كمسلم، حول شكل تلك العلاقة، فلم يكن فعل التجسد كتصور مسيحى للتواصل الإنسانى مع الحقيقة الإلهية هو الطريقة الوحيدة لحضور إلهى فعال فى عالمنا، بل ثمة طريقة أخرى إسلامية بالغة التنزيه، تبقى الله خارج الفلك الإنساني، فيما تجعله قلبا للوجود الإنساني، موصولا روحيا به، بحيث يتم التلاقي، ويكتمل الوصول إلى العمق ويحدث الفرح من خلال الاستبصار الروحى للإنسان، لا الحضور الجسدى لله. هذه الطريقة الإسلامية الصافية، فى التواصل مع الحقيقة الإلهية، وصوغ الحرية الإنسانية هى التى تم انتهاكها بطول مراحل التاريخ، حيث دخل العقل العربى فى مرحلة غياب طويل، ودخل تاريخنا الحضارى فى منحنيات مظلمة، سادها ما يقترب بالإسلام من حال الوجود الساكن، والاغتراب العميق، فإذا ما جاءت صحوة دينية، كانت متسرعة وسطحية، ظاهرية لا جوهرية، لم تسع إلى الإيجاب الحضاري، عبر حضور إنسانى حر، متمدين وفاعل فى التاريخ، بحسب أصوله التكوينية وفى قلبها العقلانية، بل جاءت عنيفة ودموية، تم توظيفها لمآرب سياسية ومشروعات هيمنة إقليمية وعالمية، أدت وتؤدى إلى تفكيك وجودنا السياسى، بإثارة نزعات مذهبية وصراعات طائفية، صارت تنتشر حولنا مثل وباء سرطاني، حاملة مسميات وأوصافا إسلامية، لعلها تبقى غريبة عنها، بقدر غربتها عن العقل والفطرة وشتى القيم الإنسانية المعتبرة. ومن ثم تتبدى حاجتنا اليوم إلى إعادة فهم الإسلام الحنيف، فهما جوانيا عميقا، يجعل من الإيمان ركيزة للتحرر، تضع الله فوق سقف الكون، وتضع الإنسان فى مقدمة أشياء العالم، قبل أن تنصرف لإقامة علاقة رأسية بينهما، تتسم بالنقاء من شائبة والبراء من كل كهانة، والبعد عن كل تسلط. لمزيد من مقالات صلاح سالم