يمكن قياس مدي حضور الدين أو غيابه بقدرته علي صياغة روحانية مؤمنة، تنمي العوالم الداخلية للإنسان، وتحفظ توازنه في الكون، إذ تربطه أفقيا بعالم الشاهد المحيط به، حيث البشر الآخرين، ربطا يقوم علي المحبة والتراحم، كما تربطه رأسيا بعالم الغيب، حيث الحضور الإلهي في نفسه يذكره بمآله ومصيره، ويستخرج منه أنبل ما فيه، إذ يبثه ضميرا خلقيا مريدا للخير هيابا للشر، مدفوعا إلي الحق. غير أن الدين، حسب هذا الفهم، يواجه مأزقا تاريخيا؛ إذ لا يكاد يوجد إلا في صوامع الرهبان، وحلقات المتصوفة، وبؤر النساك والزهاد، الذين يعيشون علي هوامش المجتمعات، ولا يجسدون متن التاريخ، فما إن يخرج إلي الفضاء المجتمعي، ويشتبك مع حركة التاريخ إلا واجهته ظاهرتان متناقضتان الأولي يعتبرها البعض انعكاسا ل (صحوة الدين)، والثانية يراها البعض دليلا علي (نهاية الدين)، فيما نعتبرهما معا تعبيرين صادقين عن (نهاية الروحانية) التي طالما انطوي عليها الإيمان التقليدي: الظاهرة الأولي هي الأصولية الدينية، وهي حالة تشي للوهلة الأولي بكثافة حضور الدين، ومدي توغله في المجال العام، ولكنها في الجوهر تشي بغيابه، وتؤكد أن خطئا ما قد أصابه وأفسد حضوره علي النحو الذي يبرر الحديث عن نهايته. الخطأ هنا هو هيمنة الطقوسية عليه، أي المكون السلوكي فيه، القائم علي النشاط الجماعي للمتدينين، باعتبارهم جماعة إنسانية تريد توكيد حضورها، وترغب في الشعور بتقدير الآخرين لها واعترافهم بها. أو القائم حتي علي نشاط فردي، ولكنه نشاط لا يهدف إلي تواصل روحي باطني مع الحقيقة الإلهية العليا، علي محور رأسي، ولكن إلي كسب ثقة الجماعة ونيل رضاها كي تعترف له بحظوة دينية أو مكانة اجتماعية مترتبة عليها، أو تمنحه من السمعة الجيدة ما يجعل حياته داخل الجماعة أكثر سلاسة وسهولة، إنها تواصل أفقي مع الجماعة الإنسانية المحيطة، تجعلها أقرب إلي ظاهرة اجتماعية منها إلي ظاهرة دينية، وهذا ما يبرر لدينا القول بغياب الدين أو الروحانية المؤمنة من جانب، والقول النقيض بانفجار الدين في كل مكان علي النحو الذي يبرر مقولات نقيضه أخذت تتحدث منذ ثلاثة عقود علي الأقل عن (عودة الدين)، فما يتفجر في كل مكان هو الطقوسية الدينية، ومتواليتها من تطرف راديكالي وعنف سياسي، وما يغيب عن كل الأمكنة هو الروحانية الدينية. أما الظاهرة الثانية فهي صيرورة العلمنة الجارية، ليس تلك العلمانية السياسية التي تتوقف عند هدف الفصل بين الدين والدولة كمجال محايد لممارسة السلطة والصراع حولها، بل العلمنة الوجودية المتنامية في قلب المجتمعات المعاصرة نفسها، بفعل تطور أنماط العيش السائدة فيها، والنظم التي تنتهجها في إدارة العلاقة بين أطرافها ومكوناتها. ففي هذه المجتمعات لا قدسية إلا للعمل، والملكية، والسلطة ولا وجود فعال لروابط التضامن الإنساني والتعاطف المتبادل التي سادت في العصر الكلاسيكي، ولكنها انهارت أمام السطوة المتزايدة لنمط الحياة التعاقدي، السوقي، الجديد والبارد معا. في هذا السياق تخضع العلاقة بين المتدين والداعية إلي قواعد السوق، وتتحول الدعوة الدينية إلي نوع من الخدمة الدنيوية الخاضعة لقواعد (الدليفري) حيث يتم الإعلان عن أرقام تليفونية يمكن للمتصل بها الحصول علي خدمة الفتوي أو الإستشارة الدينية علي أيدي قادة دينيين، مقابل دفع جنيها مصريا ونصف الجنيه للدقيقة الواحدة. إنها الخدمة نفسها التي سادت في عديد من المجالات الدنيوية لهدف تجاري بحت، الدفع مقابل الخدمة، وهنا يتساوي الشيخ الفقيه مع الفنانة التي يطلب البعض نغمات صوتها كرنات علي تليفوناتهم المحمولة، ومع لاعب الكرة التي يطلب الكثيرون مشاهدة أهدافه علي شاشات تليفونهم المحمول عبر رسائل مدفوعة الثمن، وغيرهم كثر ممن اعتبرهم المجتمع أصحاب خدمة أخذ يطلبها مقابل تسعيرة معروفة. بل تتم علمنة الدين مباشرة من خلال التوظيف التجاري المدهش والجريء بل والوقح لكل المشاعر المقدسة. فإحدي شركات التليفون المحمول تبرز في إعلان لها شيخ كبير/ يحتل موقع الجد من طفل يسير إلي جواره. الجد يرتدي جلبابه الوقور والناصع البياض تعبيراً عن صفاء الإيمان وروحانيته، يمسك في يده بحفيده الصغير داخلين إلي المسجد، وفي مشهد يعقب فراغيهما من أداء الصلاة يطلب الجد من الحفيد أن يتواصل مع الله وأن يدعوه من أعماق قلبه في مناجاة خاشعة، أي من القلب، إلا إنها لن تكون كذلك إلا إذا كانت عبر شبكة (...). المشكلة هنا أن علمنة الدين سرعان تفضي إلي علمنة الإنسان نفسه، بمعني تفكيك ضميره الحي (الخفي، الكامن في روحه) والذي يميزه عن سائر الكائنات، أمام سطوة حضوره المادي (الظاهري، المتمدد في جسده)، الأمر الذي ينفي كل المعاني المتسامية عن الإنسان، لصالح قيم استهلاكية، ونزعة تجارية بحتة، تهدر كل القيم الأخلاقية والوطنية والدينية لديه، إذ تضع لكل قيمة ثمن، فيصير انتماؤه لوطن سلعة مدفوعة الثمن وإلا فهي الخيانة، وتدينه سلعة مدفوعة الثمن وإلا فهو النفاق. وذلك قبل أن تنتهك حضوره المادي نفسه، حيث يصير الجسد الإنساني أمام سطوة الربح وغرض المنفعة، مجرد سلعة، كيان مادي مسطح ممتد عرضيا، تتبدي كل جوانبه واضحة مثلما تتبدي السلع المعروضة في معرض تجاري كبير، حيث تنمو من ناحية قيمة الصحة والجمال وتكتسب محورية في تقييم الإنسان، إلي درجة تدفعه إلي استهلاك معظم دخله حفاظا عليهما، كما تهون من ناحية أخري قيمة بعض الأجزاء الجسدية لدي آخرين لا يرون مانعا في التنازل عنها مقابل قدرا من المال، أو لدي وسطاء لا يرون مانعا في الإتجار بها لصالح هولاء علي حساب أولئك. وهنا نصبح أمام حقيقة جوهرها موت الإنسان بمشاعره وأفكاره، بمعتقداته وأخلاقياته، حيث ينتفي البعد الرأسي الجواني العميق فيه، وتتدهور قدرته علي التسامي، وهذا ما يكفي لموت الروحانية بفعل الانسحاب الناعم للدين أحيانا، وانفجاره العنيف أحيانا أخري. لمزيد من مقالات صلاح سالم