مثير جدا شأن الولاياتالمتحدةالأمريكية التى تصدر للعالم تعريفات ومصطلحات تقود الأمم والشعوب إلى حالة غير مسبوقة من الاصطدام فى الزحام أو الاحتكاك فى الظلام . فى سبعينيات القرن المنصرم أطلق وزير خارجية أمريكا العتيد هنرى كيسنجر مصطلح «الغموض البناء» وفى منتصف العقد الماضى تحدثت كونداليزا رايس عن الفوضى الخلاقة ، وها نحن الآن نصل مع وزارة الدفاع الأمريكية إلى «الصبر الاستراتيجى » .. ماذا عن هذا المفهوم الأخير؟.. أخيرا أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون أن الجيش الأمريكى لا يمكنه أن يقصف تنظيم الدولة الإسلامية بشكل أعمى ،ودعت إلى التحلى ب «صبر استراتيجي» من اجل التخلص من التنظيم ...لماذا يثير مثل هذا التصريح القلق من جهة والحنق من جهة تالية؟ ببساطة لأنه يصعب على المرء تصديق إصابة أمريكا بالعمى الاستراتيجى الذى يستوجب صبرا استراتيجيا ما يطرح علامة استفهام :«هل الصبر الاستراتيجى هذا استراتيجية مقصودة بذاتها لتحقيق أهداف بعيدة لا ترى فى الوقت الحاضر ؟ لم تكن داعش يوما بعيدة عن أعين الأمريكيين من قبل حتى يتم الصبر عليها الآن، فى أكتوبر 2013 حذر «مايك فلين » مدير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية من تهديد رئيس ومتصاعد لاستقرار العراق بسبب سعى تنظيم القاعدة فى السيطرة على أراضى الدولة العراقية ، مع قدرة جماعة القاعدة فرع العراق على الحفاظ على ملاذات آمنة لها فى سوريا. هل كان التقليل من شأن وخطورة داعش أمر مقصودا أم خطأ استراتيجيا أمريكيا ؟ قبل عدة أشهر وصف الرئيس الأمريكى باراك اوباما أعضاء داعش بأنهم جماعة من الهواة ، ولاحقا وجدناه يتحدث عن تحول داعش إلى جماعة ماهرة فى استقطاب عناصر جديدة من أوروبا وأمريكا واستراليا والدول العربية . وبالأمس القريب تحدث المسئول الأعلى عن قيادة عمليات التحالف فى العراقوسوريا ضد داعش بالقول إن تطهير الموصل من داعش يحتاج إلى نحو عام ..كم من الوقت إذن يحتاج الأمر للقضاء على داعش بكاملها ومن المستفيد من طول وقت المجابهة هذا؟ ولكى يزداد الغموض يجد العالم نفسه أمام موقف داخلى أمريكى متسارع ومتنازع بين جنرالات البنتاجون من جهة وبين إدارة اوباما من جهة ثانية ..لماذا ؟ يبدو واضحا أن جنرالات البنتاجون يعلمون تمام العلم أن الهجومات الجوية لن تقضى على داعش ، هذا ما اقر به رئيس هيئة الأركان المشتركة الأسبق الجنرال «ريتشارد مايرز» ، وأكده رئيس الأركان الحالى الجنرال مارتن ديمبسى ،فقد أشار إلى أن استراتيجية أوباما قد يعاد النظر فيها ، وقد يتم إرسال قوات صغيرة لتنفيذ هجمات متعددة ،وهذه الفكرة الأخيرة كان قد اقترحها الجنرال «لويد اوستن » قائد المنطقة الوسطى والذى كان قد اقترح الأمر بالفعل غير أن اوباما رفض جميع الأفكار المتعلقة بالمشاركة البرية . ما هى إذن السيناريوهات المتاحة أمام اوباما فى ظل صبر البنتاجون الاستراتيجي؟ بداية إذا افترضنا صدق ما يقال علنا من أن واشنطن بأجهزتها العلنية والخفية قد أخطأت التقدير فإن الرئيس الأمريكى يواجه استحقاقا واحدا من سيناريوهين اثنين : الأول :هو الانزلاق السلس فى حرب طويلة الأمد فى الشرق الأوسط من خلال أن يعدل عن وعده ويرسل جنودا للعراق ، وفى هذه الحالة يجازف بخسارة المزيد من الأرواح الأمريكية وهو الذى تعهد بسحب ما هو موجود منها فى الخارج وعدم الدخول فى حروب برية من جديد . الثانى : هو الامتناع عن إرسال قوات برية وفى هذا الحال يجازف اوباما بنجاح الحرب ضد تنظيم بدا فعلا بأقلمة نفسه مع الظروف اللوجستية على الأرض ، وتحمل الضربات الجوية ، والاستفادة من تجربة طالبان . وماذا إذن لو كان كل ما يجرى سيناريو وهميا وكل ما يشاع عن قصة الصبر الاستراتيجى غير حقيقى ؟ هنا يمكن لأى قارئ استشرافى أن يوقن بان الغرض الحقيقى لما يجرى هو إطالة زمن الفوضى ثم لاحقا تصدير هذا الكابوس إلى الصين وروسيا، ولهذا ليس غريبا أن نرى ضمن صفوف داعش مقاتلين من الشيشان ومن الايغوريين الصينيين . على أن هناك أمرا خطيرا تحققه سياسة «الصبر الاستراتيجي» وهو ضمان تأييد الرأى العام الأمريكى للحروب المقبلة ، لاسيما إذا كانت تحت ظلال ودعاوى محاربة الإرهاب .. هل من مثال ؟ فى أوائل سبتمبر أيلول المنصرم أوضح استطلاع رأى نشرته صحيفة الواشنطن بوست أن 90% من الأمريكيين يرون داعش تنظيما إرهابيا خطيرا على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وان 71% من الأمريكيين يدعمون القصف الجوى فى العراق مقارنة ب 54% قبل أسابيع ثلاثة ، و 45% منذ يونيو . ومهما يكن من أمر ، ستظل حالة الضبابية هذه قائمة إلى حين الانتهاء من انتخابات التجديد النصفى للكونجرس ، ولن يغامر اوباما بأى قرار يؤثر على مستقبل الديمقراطيين ، لكن فى هذه الأثناء يحق لنا أن نتساءل ما هى حدود الصبر استراتيجى الأمريكى والى أين تقود العالم ؟. تساؤل مفتوح يزيد من أخطار المشهد الحالى إقليميا وعالميا. لمزيد من مقالات إميل أمين