يظل أى نشاط ثقافي، سواء أكان حكوميا أو غير حكومى محدود التأثير، طالما بقى التعليم فى مصر على ماهو عليه. لقد عجزت الأطر الثقافية الراهنة ومنذ زمن عن أن تكون مصدات حقيقية للإرهاب الديني، وفشلت فى انتاج خطابات ثقافية متباينة تكون بديلا للخطاب الدينى وغير الدينى الماضوي، وظلت فلسفة التعليم الراهنة، ومنذ عدة عقود هى الصخرة الصلدة التى تتحطم عليها كل فكرة تنويرية حقيقية، وظلت المؤسسة التعليمية بكل مراحلها هى المنتج الأساسى للمادة الخام للإرهاب. ترتكز فلسفة التعليم هذه إلى انتاج مواطن خانع شكلانى القيم والمفاهيم الإنسانية، غطى التفكير، ومنذ المراحل المدرسية الأولي، فإن المؤسسة التعليمية هى أكبر حفرة لوأد الفكر والخيال، وأى محاولة للاختلاف، كما انها تكرس روح القطيع، وتؤكد أن كل قيم ومفاهيم الماضي، إنما هى بمثابة المقدسات التى يجب ألا تمس حتى بأبسط أنواع الجدل والنقاش. لقد حول التعليم الراهن ومنذ عدة عقود الإنسان المصرى الى مستقبل غير قادر على الإرسال، ووضعت رأسه الذى هو موطن العقل الى أدنى نقطة من جسده، وبدلا من أن تسعى لكى يكون الإنسان سيد نفسه وسيد الكون، وأن يكون حرا سعيدا، أعادت انتاج كل الموروث المتراكم من ثقافة التقليد المعادية لأى تجديد، وثقافة الحلول الجاهزة، سواء تلك الآتية من الماضى البعيد أو المنتجة فى مجتمعات أخرى ضمن سياقها التاريخي. إن فحص الثابت والمتحول فى المؤسسة التعليمية سوف يقود ببساطة الى كل ماسبق، وليس الثابت والمتحول فقط فيما يتعلق بالبرامج التعليمية عبر المراحل العمرية المختلفة، ولكن الثابت والمتحول فى الأداء التعليمى ذاته، فالثابت ماضوى برمته، والمتحول نجاحه الأساسى فى إضعاف الانتماء الوطني، وتمييع ملامح الهوية القومية وتحويل التعليم الى سلعة يمكن التحدث عن جودتها أو عدم جودتها كأى سلعة أخرى تباع وتشترى فى السوق. منذ عدة عقود غابت فنون المسرح والموسيقى والغناء عن المدارس، وأصبح الرسم والأنشطة الفنية التشكيلية معدومة تقريبا، وما كان يسمى بالأنشية المدرسية التى تنمى مواهب التلاميذ فى مجالات متباينة، أصبح شبه معدوم، والرياضة البدنية لاوجود لها تقريبا وخصوصا فى مدارس البنات، وأصبحت رياضة التايكندو وفن الدفاع عن النفس هى الرياضة الوحيدة المتاحة فى بعض مدارس اللغات التى تسيطر عليها الاتجاهات الإسلامية، وبعد ذلك كله، يندهش البعض لأن شابا درس فى مدرسة لغات، أصبح من زعماء داعش فى العراق. لاجدوى من الثقافة طالما بقى التعليم على حاله، فنشر الكتب مهما كانت حداثية، والقيام بأنشطة ثقافية مهما كان عظيما لاجدوى منه، طالما لم يتعود التلميذ الصغير على متعة قراءة كتاب خارج المنهج المدرسي، وطالما لم يجرب مرة أن يغنى أو يمثل، وطالما ظل جسده بلا حركة أو نشاط رياضى يجعله متحمسا ومقبلا على الحياة. تحتاج مصر الى رؤية جديدة للتعليم، وتحوله من وسيلة أساسية للقمع والقهر بكل صنوفه الى وسيلة حقيقية للارتقاء بالمواطن المصري، وهذا يحتاج الى غربلة وإزاحة لكل العقول الجامدة الفاقدة لكل حلم وكل خيال عن المؤسسات التعليمية، وإحلالها بعقول مستنيرة حقا، ووقتها سوف يكون للكتاب جدوي، وللمسرح جدوي، ولوزارة الثقافة كلها جدوي.