أجد معضلة كبيرة في الكتابة عن القريبين من نفسي، خاصة حين أفقدهم، وحين أقع تحت وقع صدمة عدم التصديق لفراق، جاء فجأة وعلى غير موعد. نعم هي إرادة مقدر المواقيت وحده ولا راد لقضائه، لكن عبرة الموت أحيانا تكون هولا يستعصي على البشر استيعابه، أو إدراك عبرته بتعجل. فمن الذي يستطيع، بعد أن شارك في زفاف صديقه، الذي طال شوقه وشوقنا لسنوات لهذه اللحظة، أن يرثيه بعد بضع ساعات.. فهذا يتجاوز كل خيال درامي ويفوق طاقة ومقدرة أي إنسان. خالد السرجاني الذي كنا نعده أحد أبرز العزاب من جيلنا، طرق الحب باب قلبه على كبر ففتحه صاغرا، لكنه تمهل، كأنه شاب صغير، في الإعداد لعش الزوجية حتى يليق بمحبوبته، واستغرقه هذا الأمر كعاشق يعمل في صمت ودأب وحب دون شكوى، وهكذا كان عهده في كل ما عشق من وطن أراده حرا.. ومن ثورة شارك في كل يومياتها ورفض أن يسرقها أو يخضعها أحد لحسابه.. ومن مهنة رفض أن تكون سوقا للنخاسة أو أداة في يد حاكم أو صاحب مال.. ومن غرام بالكتب وعناوينها جعلته الأهم بين جيله، بل ومرجعهم إلى هذا العالم الذي يضخ كل يوم بالجديد.. ومن ولعه بالأدب والسينما والموسيقى وكافة دروب الفنون والثقافة يجعلك تحتار من قدرته على فعل كل ذلك واستيعابه. التقيت خالد السرجاني في بداية عمله بجريدة «الجمهورية» قبل أن ينتقل إلى «الأهرام» شابا صغيرا لا يفترق عن كوكبة كانت تضم الراحلين جلال السيد وأحمد العزبي وفتحي عبد الفتاح وسعد هجرس، إضافة إلى سامي الرزاز وبهي الدين حسن وأحمد حسان.. واستمرت علاقتنا منذ هذه اللحظة تتوثق على أكثر من درب، لكنها حفرت لها مجرى عميقا ارتبطت به السنوات الأكثر من عمري، وهو ملف العمل النقابي، وكل ما يتعلق بمعارك حرية التعبير واستقلال الصحافة ومعارك النقابة. كان للسرجاني حضور مميز، خاصة في هذا الملف ابتداءً من معركة النقابة مع نظام مبارك عندما أراد فرض مزيد من القيود على الصحافة عام 1995 بإصدار القانون 1993 الذي أطلقنا عليه قانون حماية الفساد، وانتهاءً بالمحاولات التي تجرى حاليا لترجمة مواد الدستور المتعلقة بالإعلام والصحافة وحرية التعبير إلى منظومة تشريعات جديدة تحقق بعض ما ناضلت من أجله الجماعة الصحفية ومعها كل القوى الديمقراطية، مرورا بمعارك رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، التي دارت على ساحة النقابة في أكثر من مناسبة، وقد شاركني تجميع كل المقالات التي تناولت هذه القضية، عندما ثارت مناقشة واسعة حولها عام 1997، وكتب مقدمة وتحليلا لهذه المقالات، ودفعت بها للراحل الأستاذ صلاح حافظ، الذي نشرها كاملة بملف خاص بالعدد 89 من مجلة الدراسات الإعلامية، التي كان يتولى رئاسة تحريرها في ذلك الوقت لتبقى وثيقة حية وشاهدة على أحد أهم المعارك التي خاضتها الجمعية العمومية على مدى عمر نقابة الصحفيين. وكذلك لا أنسى له دوره الدءوب لمواجهة الهجمة الشرسة للإخوان على حرية التعبير والصحافة بعد 25 يناير وحتى خلع مرسي وكان دوره قاسما مشتركا وجسرا ممتدا يجمع شتات كل المنظمات والائتلافات واللجان التي انتفضت لهذا الغرض، ومنها اللجنة الوطنية للدفاع عن حرية التعبير، التي تشرفت بأن أكون متحدثا باسمها خلال هذه الفترة. السرجاني في هذا الملف كان صاحب قضية، مهموما ومطلعا على كل أوراقها ومتابعا لكل التجارب المماثلة في الدول الأخرى، وربما بسبب هذا الاهتمام الخاص كان دوره في تأسيس الأبواب التي تخصصت في تناول هموم الصحافة في أكثر من صحيفة، وكان يشكو لي تأخير أو غياب بعضها وكأنه يفقد عزيزا لديه، وكانت علاقتنا موصولة، وهو يؤدي هذه المهمة في التخطيط لحملة أو تناول قضية أو إلحاحه على أن أشاركه الكتابة أحيانا. أستطيع أن أقول وبلا مبالغة: إن خالد السرجاني كان في جيله نسيجا وحده، وعاش عمره المقدر بيننا ببساطة وعمق، وكانت انحيازاته في الحياة واضحة ومحددة، لكنه لم يكن أبدا من أصحاب القوالب النظرية أو الجمود الفكري. وأستطيع أن أقول بحق وضمير: إنه لم يأخذ ما يستحقه وعلى قدر ما كان يمتلكه، لكنه أشاع في كل من عرفهم أو صادقهم وزاملهم كثيرا من الأشياء القادرة على الاستمرار والبقاء والحياة. رحمك الله يا خالد فقد دعوتنا جميعا بإلحاح لوداعك في يوم زفافك.. وكم كنت متأنقا ومبهجا، ولكن لم تكن مبتهجا، فقد كان في عينيك وروحك شيء ما تتطلع إليه بعيدا عنا، وقد أخذك منا إلى الأبد.