خلص مقال الأسبوع الماضي إلى أنه من الظواهر الإعلامية التي اهتم الإسلام بضبطها بالمعايير الإسلامية ظاهرتا: دعوة الإسلام إلى عدم الانشغال بعيوب الناس، وسوء النظر إليهم، بزعم أنه قد "هلك الناس". ويتناول مقال اليوم مشاعر "الشماتة" من حيث معناها، وأحكامها؛ إذ نهي الإسلام عنها؛ إلا في حالة الشماتة بالظالم، أو العدو المحارب للإسلام. وفي تعريف "الشماتة" قيل إنها سرور المرء بما يصيب الآخرين من مصائب، وبالتالي فهي منهي عنها، لأنها من الأخلاق الرديئة التي تضر بآصرة التعاطف بين المسلمين، فلا تليق من مسلم تجاه أخيه أبدا، بل هي من صفات الأعداء الذين حذر الله منهم، ووصفهم بقوله: "إنْ تمْسسْكُمْ حسنة تسُؤْهُمْ وإنْ تُصبْكُمْ سيئة يفْرحُوا بها وإنْ تصْبرُوا وتتقُوا لا يضُرُكُمْ كيْدُهُمْ شيْئا إن الله بما يعْملُون مُحيط".(آل عمران:120). فالوضع الطبيعي للمجتمع المسلم أن يوطن أبناؤه أنفسهم على أن يفرح كل منهم لفرح أخيه، وأن يتألم لألمه، وإلا أصبح من العقوبات القدرية لمن كان شامتا بأخيه أن يُبتلى بمثل ما كان سببا لشماتته.. جاء في الحديث النبوي: "لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك".(رواه الترمذي، وقال: حسن غريب). وحكى الله تعالى من قصة هارون مع أخيه موسى عليهما السلام، ما اعتذر به الأول للثاني من رغبته في تجنب شماتة القوم، فقال تعالى: "وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ". (الأعراف: 150). ويبدو أن هذا سلوك عام لدى الأنبياء، إذ قيل لأيوب عليه السلام: "أي شيء من بلائك كان أشد عليك؟ فقال: "شماتة الأعداء". قال العلاء بن قرضة: "إذا ما الدهر جر على أناس.. حوادثه أناخ بآخرينا... فقل للشامتين بنا أفيقوا.. سيلقى الشامتون ما لقينا". إن المسلم الذي تربى على الأخلاق الإسلامية، ووعى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لا يشمت في أحد، ولا يفرح في مصابه، سواء كان مسلما أو غير مسلم، وحتى إن كان يكره أفعال العصاة والكفار، إلا أنه لا يشمت بهم، ولا يفرح بمصائبهم، لأنه يبغض أعمالهم، ولا يبغضهم. وتتنافى الشماتة بالمَصائب التي تقع للغير تماما مع أخلاق المسلمين، وما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم- حتى إنه تعرض لإيذاء أهل الطائف له، وبرغم ذلك لم يدع عليهم بالهلاك، وعندما خيره جبريل عليه السلام في ذلك، قال: "لا، بل أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابِهم من يعبده لا يشرك به شيئًا"؛ ثُمّ تسامَى في النبل، فدَعا لهم بالهداية، والمغفرة. وهكذا، رُوى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ". (البخاري ومسلم). ولعبد الله بن أبي عتبة هنا قوله: "كل المصائب قد تمر على الفتى فتهون غير شماتة الأعداء". وتبدو عاقبة الشماتة وخيمة بالشامت، عندما تدور الأيام دورتها، ويصيبه من تقلباتها جانب. وفي هذا يقول ابن سيرين: "عيرت رجلا بالإفلاس، فأفلست". وعلق ابن الجوزي على ذلك بقوله: "ومثل هذا كثير، وما نزلت بي آفة، ولا غم، ولا ضيق صدر إلا بزلل أعرفه حتى يمكنني أن أقول: هذا بالشيء الفلاني، وربما تأولت تأويلا فيه بعد فأرى العقوبة". جواز الشماتة بالظالم والعدو المحارب إن سرور قلوب المؤمنين لما يصيب الظالم والعدو المحارب من مصيبة.. غير مذموم، لأنه شفاء لما في صدورهم من الغم والهم؛ إذ يرونهم ساعين في إطفاء نوره تعالى، ومحاربين له. قال العز بن عبد السلام في كتابه "قواعد الأحكام": "لو قتل عدو الإنسان ظلماً وتعدياً فسره قتله، وفرح به، هل يكون ذلك سروراً بمعصية الله أم لا؟ قلت: إن فرح بكونه عصي الله فيه فبئس الفرح فرحه، وإن فرح بكونه تخلص من شره، وخلص الناس من ظلمه وغشمه، ولم يفرح بمعصية الله بقتله، فلا بأس بذلك؛ لاختلاف سببي الفرح، فإن قال: لا أدري بأي الأمرين كان فرحي؟ قلنا: لا إثم عليك، لأن الظاهر من حال الإنسان أنه يفرح بمصاب عدوه لأجل الاستراحة منه، والشماتة به، لا لأجل المعصية، ولذلك يتحقق فرحه، وإن كانت المصيبة سماوية". والدليل على جواز الفرح بهزيمة الأعداء المحاربين قوله تعالى: "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ".(التوبة: 14). وفي الختام تأتي النهاية السعيدة بحمد لله تعالى على هلاك الظالمين القاسية قلوبهم.. قال تعالى: "فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".(الأنعام: 45). [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد