عمود الشمع والهم والدمع.. الذى اسمه عم برعى الشحات برعى.. مازال ممسكا بأذنى يصب فيها كلماته وحكاياته وآهاته.. ونحن جلوس مع عائلته المغلوبة على أمرها دنيا وآخرة.. فوق كنبات ثلاث بلا حشيات.. نسند بظهورنا جدار الغرفة اليتيمة التى تجمعنا فوق سطوح منزله فى دولة آسف أقصد فى كفر طهورموس.. من أعمال دولة التكاتك والمكاتك والبكاتك، كما يطلقون عليها فى بلاد الناس »اللى حالهم أغلب من الغلب«.. كما وصفهم الرئيس المنقذ عبدالفتاح السيسى! عمود الشمع يعيد كلماته فى أذنى: ما تجبليش وحياتك سيرة اللحم.. بعد أن تجاوز ثمن الكيلو الواحد منها عند الجزار المفترى فى أول الشارع خمسة وسبعين جنيها.. تصور.. يعنى ماهيتى فى الشهر تساوى عنده يادوب أربعة كيلو لحم! قلت له: يا سيدى ابعد عن سكة المفترى ده.. اللى ماهيتك تساوى عنده يادوب أربعة كيلو لحم.. وروح الجمعية الاستهلاكية.. والكيلو عندها ب 45 جنيها بس.. وياسيدى بلاش لحمة.. كل فراخ.. وأنا أعرف إن الجمعية فيها فراخ مجمدة.. الفرخة بحالها ومحتالها لا يزيد ثمنها على خمسة عشر جنيها ويمكن أرخص كمان.. وادعى لحكومة عمك محلب! قال: دلوقتى لما بأروح أخد التموين بتاع الشهر.. ألاقى لكل واحد من الأفراد الخمسة اللى مكتوبين فى البطاقة 15 جنيها فى الشهر.. يأخذ بيهم زيت + سكر + أرز + مكرونة.. يعنى يأخذ ب 65 جنيها للأسرة كلها.. يعنى يأخذ للفرد الواحد: قزارة زيت ب 9 جنيهات + كيلو سكر ب 4.5 جنيه كيلو أرز ب 4 جنيهات + كيلو مكرونة بجنيه ونص حسب القرارات الجديدة.. أسأله: طيب وزمان؟ قال: كانت الأسرة من 4 أفراد تأخذ 8 كيلو سكر + 8 كيلو أرز + 6 قزايز زيت + الشاى! أسأله: يعنى زمان أحسن واللا دلوقتى؟ قال: بالحسابة والكتابة.. زمان موش أحسن قوى.. لكن دلوقتى أضافوا للبطاقة التموينية اللحم والفراخ والعيش كمان! قلت له: عظيم يا عم برعى! قال: عظيم بس يدونا الماهية أول كل شهر.. موش كل 6 أشهر أو 7 أشهر نقبض مرة! قلت له: مافيش حاجة بتضيع عند الحكومة أبدا.. حقك حتأخذه طال العمر أو قصر.. ودى عبارة يا عم برعى الشحات البرعى.. مكتوبة على جدران المعابد من أيام الملك مينا صاحب أول حكومة فى التاريخ الإنسانى كله قبل أكثر من خمسين قرنا من الزمان! ................... ................... ساخرا أو ماكرا لا فرق قال عم برعى الشحات برعى فى آخر صورة له كأنه فؤاد المهندس فى دور المدرس الغلبان فى مسرحية »السكرتير الفنى« من مأثورات الريحانى العظيم: طيب خللى عمنا المهندس إبراهيم محلب الراجل الجدع ابن البلد الأصيل يحل لنا هذا الألغاز دى؟ قلت له: دخلنا فى الألغاز والفوازير.. يا عم برعى.. لسه بدرى على رمضان؟ قال: عاجبك كده منظر الشباب الملقح على القهاوى موش لاقى شغلة ولا مشغلة.. جيل كامل يا عزيزى موش عارف كام مليون حيضيع وطريقه دلوقتى سالك ناحية الضياع والحشيش والترامادول.. والعيال داخلين المدارس من غير شبابيك ومن غير مدرسين ومن غير أمان.. والدولة عمالة تزود فى أسعار كل شىء من تذكرة الأتوبيس والميكروباص والمترو فى الطريق.. والدنيا عمالة تضلم والكهرباء بتتقطع دلوقتى أكثر مما بتنور بتشديد الواو وأخوة الظلام موش سايبينا فى حالنا.. يحرقون المحطات والكابلات والمولدات تخريبا بالقنابل والعبوات الناسفة.. والباعة الجائلين أصبح لهم صوت وحضور ولازم نحل لهم مشكلاتهم الأول.. ونوفر لهم لقمة العيش الشريفة قبل ما يتحولوا إلى بلطجية وخطر متنقل فى الشوارع والميادين واحنا ما صدقنا خلصنا من همهم والفوضى اللى كانوا عاملينها! قلت له مقاطعا: ما تقول كمان.. إن الدولة مافيهاش فلوس وهى داخلة على أكبر مشروع عملاق لا يقل عن السد العالى الذى بناه عبدالناصر وجيله كله واحنا منه.. اسمه مشروع قناة السويس الثانية.. عاوز توصل لإيه بالضبط يا عم برعى الشحات برعى؟ قال: عاوز أوصل إن موضوع سندات قناة السويس اللى الناس بتشتريها.. موش حتكفى.. معقول نحمل الناس تكاليف المشروع واحنا عندنا فلوس فى الزلع وفى الحيطان وتحت البلاطة وإحنا موش داريين عنها أو مطنشين عشان اللى كان بينهب منها.. يفضل يعبى زى كنز على بابا! قلت له ضاحكا: أنا فهمتك يا أروبة.. انت تتحدث عن أموال الصناديق الخاصة.. موش كده؟ قال: بالضبط.. ما أعرفش الصناديق دى داخلة فى الميزانية واللا برة.. منين بتأخذ أموالها وعلى مين بتوزعها.. المحاسيب طبعا! قلت: ده كان فى زمن حسنى مبارك وشلته.. وكان فيها على الأقل وحسب معلوماتى إن لم أن مخطئا 44 مليار جنيه! قال ضاحكا: دول يبشبشوا مصر كلها وينغنغونا على الآخر! ........................ ........................ تضع أمامنا ست الدار وهى سيدة محتشمة ترتدى إشاربا أسود شفافا فوق وجهها يتدلى فوق جلبابها الأخضر الفضفاض.. صينية الشاى المضبوط.. وهى تقول: انتم عمالين تتكملوا عن حاجات ماحدش فاهم منها حاجة.. اتكلموا أحسن عن واحد زى ابننا عبدالمعطى واخد ليسانس حقوق وموش لاقى شغلانة مع زمايله كلهم من أربع سنين.. اتقدم على وظيفة فى النيابة الإدارية موش عاوزة تيجى أبدا! اتكلموا عن »الغموس« فى البيوت المصرية.. الناس موش عارفة توكل ولادها.. اللحم بالشىء الفلانى.. الفراخ طارت ما رجعتشى.. وكل يوم أسعارها فى الزيادة.. أما السمك يا باشا فبطلنا نجيبه.. البلطى الشبار الصغير بقى الكيلو منه بعشرين جنيها.. تصور حضرتك.. أما الدنيس بتاع الناس الأكابر بقى سعر الكيلو عند السماك بخمسين.. يا داهية دقى.. نرجع تانى للفول والطعمية والبصارة والعدس والكشرى! وبعدين باباشا؟ هى تسألنى.. حنوصل لحد فين فى حكاية الضلمة اللى عاملة زى عفريت العلبة دى.. موش كانوا قالوا إن احنا خلاص لقينا غاز فى البحر يقضينا العمر كله ويفيض.. وأيامها حولوا مصانع الطوب من الفحم إلى الغاز.. ودلوقتى مافيش غاز قالوا نرجع للفحم تانى موش مصانع الطوب بس.. لا محطات توليد الكهرباء.. يا سنة سودة يا أولاد! أنا آسفة.. تعتذر الأم الحنون عن عبارتها الأخيرة.. ولكن ما باليد حيلة! ................ ................ سيدة الدار تقدم لنا مع أكواب الشاى قطعا من الكعك والقراقيش وهى تعتذر لنا بقولها: ما علهش ياباشا.. ما عملناش بسكوت عشان قلة السكر.. تعرف يا سعادة الباشا اللى هو أنا فى نظرها اللى منغص علينا عيشتنا إيه؟ إيه؟ مادام الكهرباء اللى بتقطع.. والمية طبعا ما بتطلعشى السطوح اللى احنا ساكنين فيه.. لأن الموتور اللى بيرفع الميه ما بيشتغلشى من غير كهربا! أسألها أنا: وإيه كمان يا ست الكل؟ قالت: المدارس قربت.. وقالولنا المصاريف زادت.. تدفع كام لأولادنا وأولاد أولادنا.. واحنا كمان خايفين على الأولاد من اللخبطة اللى حاصلة فى الشوارع.. والقنابل والعبوات الناسفة اللى فى محطات الأتوبيس والمترو والقطارات.. حاجة كده زى القضاء المستخبى.. ما تعرفشى حيطلعك منين؟ وامتى؟ وفين؟.، فين ياباشا بلد الأمن والأمان اللى كان الرئيس السادات »بيتفشخر« بيها قدام الدنيا كلها.. وأسفه جدا لكلمة »بيتفشخر« دى لأنها الكلمة الصحيحة التمام هنا.. احنا دلوقتى ياباشا بقينا بلد زراعة الخوف وزراعة القنابل الموقوتة.. زى العقارب المستخبية اللى بتصطاد لها عيل صغير جاى من مدرسته.. واللا ست رايحة تأكل عيش وبتجرى علي أولاد صغار أو حتى أيتام! فجأة جاء النور.. ليصيح الأطفال فى صوت واحد: هييه.. وتنفسنا نحن الصعداء.. وقالت ست الدار: على وش حضرتك يا باشا.. بس لو تكمل جميلك كده وتسأل صاحبك المهندس إبراهيم محلب.. ليه خمسة آلاف مصنع لحد دلوقتى موش شغالين.. وعمالهم ومهندسيهم وموظفيهم فى الشارع والدولة بتدفع لهم مرتبات من دم الحى.. ليه ما نشغلشى المصانع دى من تانى.. شوف بقى حضرتك لو خمستلاف مصنع رجعت ماكيناته تدور وتزغرد وتغنى من تانى.. شوف كام أسرة حترد فيها الروح.. ومادمنا ياباشا قدرنا نفحت قناة جديدة يبقى معاها نرجع ماكينات المصانع العطلانة تدور من تانى.، واللا إيه؟ ................ ................ تستحلفنى ست الدار بالكعبة ومقام الرسول الكريم اللى زرتهما أن نبطل خداع.. ونبطل كذب.. ونبطل زنب فى بعض.. ونبطل سرقة وبلطجة وتجرمة وخداع وقتل.. ونصلى ركعتين لربنا عشان يصلح حالنا.. ونرجع نحب بعضنا ونشتغل ونعرق ونحط مصر بس فى نن عنينا! اللهم آمين. ................... ................... قبل أن أمضى لحال سبيلى.. طلبت منى ست البيت أن تحدثنى وحدى.. وقفنا إلى جوار سور البيت المطل على القاهرة كلها.. وهى تغط فى ظلام عميق.. قالت لى: أستحلفك بالله أن تذهب إلى هذه الأم الخاطئة التى ارتكبت أبشع جريمة فى الوجود.. حتى إبليس نفسه لا يقدر على ارتكابها.. كيف طاوعها قلبها هذه الأم لتذبح بالسكين طفلتيها الصغيرتين 4 سنوات وسنتين.. ثم تحاول حرقهما بعد ذبحهما لمجرد أن زوجها هددها بالطلاق.. وأنها كانت تعيش فى حالة فقر مدقع.. تنتحب السيدة العظيمة وهى تردد: الفقر هنا ليس سببا أبدا لقتل الضنى.. فلذات الأكباد.. حنايا الصدور.. القيامة قربت ياباشا! ولكن ذلك حديث آخر..{