هل قابلتم فى حياتكم ولو مرة واحدة واحد بنى آدم أغلب من الغلب؟ والتعبير ليس من عندى.. ولكن يتداوله الناس الغلابة.. وما أكثرهم فى هذا البلد! وقد قاله فى أكثر من مناسبة الرئيس عبدالفتاح السيسى نفسه! أنا قابلته ومشيت معه.. بل وصدقته وذهبت معه إلى بيته المتواضع جدا.. ووجدت فسحة من الوقت لأجلس مع أهل بيته وناسه وتسامرت مع أفراد أسرته اللى آخر غلب! ولكننى فى نهاية اليوم شعرت بطائر الهم ورفيقه غراب الغم يركبان واحد فوق رأسى والثانى فوق كتفى.. وأكثر من هذا كله.. لقد شعرت طوال الوقت وأنا فى دار هذا الفقير دقة.. أننا حقا وصدقا ويقينا كأننا قد أصبحنا نعيش الآن فى سراية مجانين حقيقى.. وليس فى دولة تنحنى لها الرءوس والهامات ذات تاريخ وذات مبادىء.. وأن الغلابة فى بلادنا مآلهم ومصيرهم حتما ويقينا أن عاجلا أو آجلا ونحن معهم إلى سراية المجانين »عدل« بكسر العين والدال وسكون اللام! وآسف جدا لهذه الكلمات العامية التى تتسلل رغما عنى إلى عباراتى وسطورى! أيقنت بمجرد أن رأيته أمامى على باب مجمع الأهرام الاستهلاكى فى شارع ناصر الثورة فيما بين شارعى الهرم وفيصل وهو يحمل أثقالا وهموما وعبوسا يكفى لرسم خيوط الحزن علامات على وجه وفى صدر سكان مدينة بحالها وليس مجرد قرية غلبانة أو كفر يتيم من كفور الغلابة فى بلدنا.. أقول.. أيقنت ساعتها أننى حقا وصدقا ويقينا أمام واحد من الناس حاله أغلب من الغلب نفسه! كان يرتدى بنطلونا أغبرا فوقه جاكت بلا لون.. ونحن فى عز الصيف.. وكان ينقصه فقط طربوشا أفطسا ونظارة نظر «قعر كباية» كما يسمونها.. ليصبح صورة طبق الأصل من عمنا فؤاد المهندس فى دور »ياقوت أفندى عبدالمتجلى سليط« المدرس الغلبان فى مسرحية الريحانى الشهيرة «السكرتير الفنى».. سألته بأدب شديد: على فين العزم؟ قال: أصل أنا جاى الجمعية دى عشان أصرف التموين الشهرى بتاعى! قلت له مازحا: على فكرة اللى ماسكة التموين هنا واحدة ست طيبة القلب صعبة المراس دعنى أعرفك بها.. هى وصديقى مدير المجمع الاستهلاكى واسمه أحمد لبيب.. وهو رجل مهذب.. قال وكأنه قد ارتكب ذنبا لا يغتفر: بس أصل أنا بكل أسف مامعاييش فلوس.. أصل الشركة اللى بشتغل فيها من عشرين سنة.. قربت تفلس.. مافيش شغل.. مافيش إنتاج.. مافيش أرباح.. وكمان مافيش مرتبات. موش بس احنا فيه خمس الاف مصنع زينا بالضبط! أسأله: إزاى يا عم؟ قال: برعى الشحات برعى.. اسمى كده! قلت له : إزاى مافيش مرتبات يا عم برعى؟ قال: بقالنا خمسة أشهر من غير قبض.. قال إيه مافيش فلوس! قلت: وبعدين عملتم إيه؟ قال: العمل عمل ربنا.. العمال عملوا المستحيل وفى الآخر عملوا إضرابات ووقفات احتجاجية لحد لما جالهم لحد عندهم رئيس الوزراء بنفسه! قلت له: المهندس إبراهيم محلب؟ قال: أيوه.. بعد كده قبضنا الأشهر الخمسة المتأخرة دفعة واحدة.. والنهاردة قالوا لنا: اصبروا علينا حبتين لما الإنتاج يظهر وينزل السوق وربنا يسهل! قلت له: وربنا سهل واللا لسه؟ آثر الصمت.. ولم يجب وكأن فى صمته كان الجوابا! ................ ................ كان واقفا أمامى كأنه تمثال من الشمع.. قابلة للذوبان وحتى لا تحوله شمس الظهيرة البالغة السخونة.. إلى بخار ورماد ودخان يتطاير فى الهواء.. طلبت منه أن نجلس قليلا تحت ظل شجرة أو أى مكان ظليل هادىء نتكلم ونتحاور.. ولأنه لا وجود للشجر فى حياتنا الآن.. بعد أن قطع أعداء الخضرة فى بلدنا وما أكثرهم.. كل ما هو أخضر وظليل.. ولأنه كما قال لى لا يحب ارتياد المقاهى والكافيهات حتى لا يصرف ما فى الجيب فى الأولى.. ويتعرض للقيل والقال وكثرة السؤال فى الثانية.. فقد اقترح علىّ فى شهامة أولاد البلد أن نذهب معا إلى داره القريبة من هنا يادوب فركة كعب إلى كفر طهورموس ولا أدرى من أين أتى اسم طهورموس هذا ليلتصق بحى الغلابة والمطحونين على اطراف شارع فيصل أطول شارع تجارى فى بر مصر كله فيه كل شىء.. حتى الغوغاء وخطف الفتيات بالتكاتك.. وكثرة الكافيهات التى تلم داخلها القاصى والدانى والعاصى والعاصية والعصية والمطية.. والجملة الأخيرة ليست لى ولكنها لشاعرنا الجميل بيرم التونسى.. ولأن الدنيا قيظ وحر وزهق وماحدش طايق حد.. حسب تعبير عم برعى الشحات برعى.. فقد اقترح علىّ أن نذهب إلى داره المتواضعة لأتعرف على حاله ومحتاله.. والأخيرة تعنى عند عم برعى أسرته وأولاده وأهله وناسه.. وكما قال لى: وأهو تشوف بالمره أهل الدار وتسلم وتعرف وتتعرف بنفسك إزاى أهل مصر الغلابة عايشين وصابرين والدنيا واخداهم لحد فين؟ .................... .................... كان لابد لنا للوصول إلى دار الراجل اللى حالة أغلب من الغلب نفسه.. أن نركب »توكتوكا«، وأن ندفع جنيهين كاملين للصبى الذى يقوده.. وكأنه طرزان زمانه لا يلوى على شىء.. وهو لم يتعد على الأكثر اثنى عشر عاما.. وإن كانت تتدلى من شفتيه السوداويتين طول الوقت بواقى سيجارة وكأنه شيخ فى السبعين. بمجرد نزولنا من التوكتوك الطرزاني العجيب.. على مقربة من دار عم برعى.. فاجأنا سائق التوك توك بقوله ليس همسا ولكن بصوت عال: الباشا اللى هو أنا موش عاوز حاجة يعمر بيها الطاسة الليلة دى.. أنا عندى أصناف هتعجبك قوى.. لا تقوللى ترامادول ولا بنادول.. ولسه واصل وحياتك إمبارح بالطيارة! يشدنى عم برعى من يدى وهو يقول لى: زوغ بينا زوغ.. خلينا نبعد عن الولد اللومانجى ده.. لحسن حيودينا فى طوكر! نتوقف أخيرا أمام بيت طويل القامة.. لا نعرف كم عدد أدواره.. فهم هنا يبنون ويرتفعون بس.. لكن لحد فين.. الله هو اللى أعلم.. هكذا يقول الرجل اللى حاله أغلب من الغلب نفسه صاغرا صابرا.. ظللنا نصعد وفى كل دور أسأل عم برعى: هنا؟ يقول لى: لسه! اتهد حيلى وانقطع نفسى تماما عند الدور الثانى عشر وقلت لرفيقى عمود الشمع الذى رماه زمانه لديابة السكك، حسب تعبيره: لحد كده واربط! قال لى مبتسما لأول مرة من فم خلا تقريبا من صنف الأسنان: ما احنا خلاص وصلنا.. دور واحد بس وتبقى عند الجماعة! والجماعة للعلم تعبير شعبى وهو يعنى جميع أهل الدار وفى مقدمتهم سيدة الدار طبعا!! ................. .................. لم نجد سكنا حقيقيا.. مجرد غرفة كبيرة كأنها دوار العمدة.. ملحق بها مطبخ ودورة مياه.. وحبال غسيل كأنهم رفعوا فوقها غسيل بر مصر كله.. لأن الغسيل المنشور كان يخفى خلفه معالم القاهرة كلها أو هكذا خيل إلينا.. يخرج علينا من بين ثنايا حبال الغسيل.. غلمان وولدان وبنات قمامير تتدرج أعمارهم كما حسيت ساعتها ما بين الخامسة والخامسة عشر.. ما بين صبيان وبنات وغلمان وعرايس.. سألت عمود الشمع قبل أن بذوب: ولادك دول يا عم برعى؟ يرد علىّ مستنكرا السؤال: أمال يعنى ولاد الجيران.. طبعا كل اللى قدامك دول ولادى وأحفادى كمان! قلت له: يعنى انت واخد السطوح كله؟ قال: من بابه.. تعالى ندخل عشان حضرتك تسلم وتشوف وتتعلم كمان زى ما بتقول أم كلثوم! لم أكن أعلم حتى هذه اللحظة أن الفقر يمكن أن يصبح مدرسة ندخل فصولها لنتعلم معنى الحياة.. حتى دخلت بقدمى إلى دار عم برعى.. وعشت مع أسرته المتواضعة ساعة أو بعض الساعة. قفزت أمامى ملاك صغير فى صورة طفلة غاية فى البراءة.. قالت لى فى صوت ملائكى: أنا اسمى خديجة أمى سمتنى على اسم زوجة سيدنا محمد.. أشار إليها عم برعى وقال لى: دى بقى حبيبة القلب بنت بنتى عائشة.. عايشة معانا هنا هى وجوزها وأولادها بعد ما وقع بيتهم فى اسطبل عنتر.. وبقوا فى الشارع.. جبتهم هنا يونسونى! قلت له مخففا: حملك بقى تقيل يا عم برعى! قال: ربك موجود وربك ما بيسيبش حد! أسأله: وجوز بنتك معاكوا برضه هنا فى علبة الكبريت اللى انتم عايشين فيها على السطوح! قال بأسى: ولاد اللذينة وانت عارفهم نشوه رصاصة فى مظاهراتهم راح فيها.. منهم لله! ................... ................... اجتمعنا فى صالة الشقة باعتبارها حجرة الجلوس التى تلم كل أفراد العائلة.. ثلاث كنبات بلدى.. كل كنبة تستند إلى جدار وفى الوسط ترابيزة مستديرة اعتبروها ترابيزة سفرة تجمعهم كلهم ساعة الطعام.. وفوق شباك مسدود بكرتونه وضعوا تليفزيونيا من أيام سيدنا نوح.. يعنى يا دوب يشاهدون فيه المسلسلات والأفلام ونشرات الأخبار والآذان وآيات الذكر الحكيم.. ودمتم.. لا نكد فضائيات ولا يحزنون.. جاءت ست البيت آخر حشمة وآخر أدب.. كانت يا دوب قد انتهت من صلاة العصر.. سلمت وجلست وتبعتها ابنتها التى راح زوجها.. وولديها.. هذا غير الحفيدة التى ترد الروح من ابنة كبرى اختارها الله إلى جواره ساعة ولادتها.. التقطت سيدة الدار بعينيها الثاقبتين.. علامات أسى وحزن على وجهى.. فبادرتنى بقولها: ياباشا المؤمن دايما منصاب.. ودايما ربنا فاكره! رب الأسرة: ورحمة ربك واسعة.. وربك ما بينساش حد أبدا! أسأله هامسا فى أذنه: مرتبك كام بالصلاة على النبى كده يا عم برعى الشحات برعى؟ قال فى صوت ضعيف: ربك هو الرزاق.. وما بينساش حد أبدا! قلت بإصرار: كام يا عم برعى.. ريحنى بس! قال: بعد الخصومات والذى منه.. خمسمائة وخمسة وأربعين جنيها.. يدفع منها مائتين وخمسين جنيها إيجار الغرفة اللى احنا عايشين فيها فوق السطوح واللى حضرتك قاعد فيها دلوقتى! .................. .................. ويبقى السؤال: كيف يعيش عم برعى الشحات برعى »الفقير دقة« بأقل من ثلاثمائة جنيه كل شهر وفى رقبته هذا الكم من اللحم الآدمى، وهو من بين أفراد قبيلة من قال عنهم الرئيس عبدالفتاح السيسى إن حالهم أغلب من الغلب نفسه.. ولكن ذلك إن شاء الله حديثنا المقبل { لمزيد من مقالات عزت السعدنى