عاد الأمل لأحلامهم، أطلقوا العنان لآمالهم، انتظروا الوفاء بالوعد، وفجأة قطعت الوزارة الأمل، وأنهت الحلم: لا عودة لتكليف خريجى كليات التربية. وزارة التربية والتعليم سبق أن وعدت بدراسة عودة تكليف خريجى التربية، منذ الوزير الأسبق جمال العربى، وقالت وقتها إنها بصدد وضع مشروع قانون يعيد «التكليف» الذى ألغى عام 1998 بقرار من رئيس الوزراء آنذاك كمال الجنزورى بدعوى أن ميزانية الدولة لا تتحمل عبء تكليف خريجى كليات التربية آنذاك ، لكن الوزارة صرحت أخيرا فى قول حاسم «لا عودة للتكليف». 16 عاما منذ إلغاء التكليف والنتيجة عجز حاد فى مدرسى الوزارة وصل إلى ما يقرب من 160 ألفا، وتدهور حاد فى العملية التعليمية، نتيجة تعيين غير المؤهلين تربويا، وآلاف من خريجى التربية ينضمون سنويا إلى طابور العاطلين، بعدما كان دخول كلية التربية معناه التعيين فورا. مهنة التدريس هى» مهنة من لا مهنة له» أصبحت قولا شائعا الآن، فمبدأ تكافؤ الفرص الذى قال عنه الوزير الحالى محمود أبو النصر يعنى أن يتقدم أى خريج لهذه المهنة، حتى ضاع أصحاب الحق الأصليون، خريجو كليات التربية. الدكتور سعيد إسماعيل على أستاذ أصول التربية بجامعة عين شمس تحسر على ما آلت إليه حال خريجي كليات التربية، إذ رأى أنه من حسن الحظ حقا أن مصر قد عرفت منذ سنوات بعيدة، الطريق إلى التأسيس العلمى والمهنى لمن يريدون ممارسة مهنة التعليم فى مرحلة التعليم قبل الجامعى عن طريق أنواع متعددة من معاهد وكليات إعداد المعلم، أشهرها فى العقود القليلة الماضية ما أصبح معروفا ب «كليات التربية» 0 واتسق هذا مع التوجهات القائمة فى المجتمعات المتقدمة، بل كثير من المجتمعات شبه المتقدمة، على أساس أن مهنة التعليم لا تقل أبدا عن أى مهنة أخرى مثل الهندسة والطب والمحاماة والصيدلة وغيرها، لابد لمن يمارسها من أن يعد إعدادا متخصصا فى مؤسسات علمية مهنية تتولى تزويد الطلاب بما هو بحاجة إليه من علوم وتدربه على ما لابد منه من مهارات. وأشار إلى أنه بعد أن سجلت كليات التربية منذ أول السبعينيات السبق فى الانتشار فى طول البلاد وعرضها ، تُخَرّج عشرات الألوف سنويا، جاءت لحظة من لحظات تاريخ تعليمنا السوداء فى التسعينيات، تخلت الدولة ووزارة التربية والتعليم عن الالتزام بتعيين خريجى كليات التربية، اتساقا مع الفلسفة المعلنة من قبل الدولة التى ترفع شعار »آليات السوق«، وترك قواه للعرض والطلب ، إخلاء الساحة للقطاع الخاص ، وأصبح المبدأ الحكومى : علينا أن نُعلم ، وليس علينا أن نُشغل ، فالعمل مسئولية المتعلم نفسه ، وفى الوقت الذى تخلت فيه الوزارة عن تعيين خريجى كليات التربية ارتفعت أصوات الطلاب شاكية من أنهم ليسوا مثل أى خريجين، فهم يُعدون لمهنة معينة ، فإن لم يُعينوا فيها فإلى أين يذهبون ؟ ويظهر هذا بصورة صارخة بالنسبة لكليات رياض الأطفال، وكليات التربية النوعية، وكليات التعليم الصناعى، بينما كل من كليتى الآداب والعلوم من الكليات المهنية التطبيقية. برامج تدريب وتتوهم الوزارة كما يقول د. سعيد أن حاجتها إلى معلمين يمكن أن تُسد من خريجى أى كلية من كليات الجامعة المتصل تخصصها بالمقررات التى تدرس فى مدارس التعليم العام ، مثل كليات العلوم والآداب ، وعندما تفعل الوزارة هذا تجد نفسها مضطرة إلى تنظيم برامج تدريب لعدة أسابيع لتأهيل من اختارتهم من خريجى الآداب والعلوم ، تنفق عليهم مئات الألوف من الجنيهات ، وفق بنود مختلفة ، بينما تدير ظهرها لألوف من خريجين لم تنفق على تأهيلهم قرشا واحدا وظلوا يؤهلون لممارسة المهنة أربع سنوات كاملة ! التخطيط التربوى
ويتساءل : هل رأينا تبديدا لطاقات الوطن المادية والبشرية مثل هذا التبديد ؟ فدولة بها كليات التربية، فيها علم اسمه «التخطيط التربوى»، له أساتذة عظام يملأون الأرض معرفة وبحثا على صفحات الأوراق ، ويملأون طلابهم علما عن أهمية التخطيط ، وما هو التخطيط ، ودواعيه ، وأهدافه ، وشروط القيام به ، وغير هذا وذاك مما نعلم ومما لا نعلم ! فمن المسئول عن هذا التبديد ؟ ومن يحاسب من ؟ منظومة التطوير الوزير الأسبق للتربية والتعليم الدكتور أحمد جمال الدين موسى رأى أن المعلم التربوى وضرورته يدخل ضمن منظومة تطوير التعليم، وهو أحد عناصرها المطلوبة لتطويره، ولا ينبغى إغفال عنصر ضمن هذه المنظومة على حساب باقى العناصر. ويشير إلى أنه ينبغى معرفة أن قرار تكليف خريج التربية ليس مسئولية وزارة أو وزير فهو لا يملك، إنما هو مسئولية دولة، فكما ألغت من قبل التكليف فإنها هى التى تعيده. ويتساءل الوزير السابق عن التوسع الكبير فى إنشاء كليات التربية فى وقت لم تكن الدولة فى حاجة إلى كل هذا العدد، فالمجلس الأعلى للجامعات رأى أن ذلك الكم كان على حساب الكيف، وأنه وضع خطة لتطويرها. ثم إن المعلم سواء كان خريجا من كلية تربية أو خريجا من غيرها فهو يحتاج تأهيلا مستمرا، وليس فقط الاكتفاء بما تعلمه فى كليته، حتى لو كان خريجا متميزا، فإن لم يلحقه التطوير فإن مستواه المهنى سيتراجع حتما. مأساة كبرى قضية تكليف خريجى كليات التربية والعودة عن عدم تكليفهم أمر قديم وليس جديدا، كما يشير إلى ذلك د. حسنى السيد الأستاذ بمركز البحوث التربوية، فهى منذ أيام د. حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم فى عقد التسعينيات الماضى. ويصفها د. حسنى بأنها مأساة كبرى لكل خريجي كليات التربية، فهم لا عمل أو مهنة لهم إلا مهنة التدريس على عكس خريجى الكليات الأخرى: الآداب أو التجارة أو العلوم، الذين قد يجدون عملا آخر، والباب واسع فى مهن كثيرة غير التدريس. ومن نتيجة عدم التكليف أن أصبح طالب كليات التربية لا يهتم كثيرا بالتحصيل، فمن وجهة نظره أصبحت « شهادة وخلاص» أو يعلم فى مدارس خاصة فى القرى والنجوع ويكون فريسة لاستغلاله من أصحابها. طابور البطالة بأسى يتحدث د/ كمال مغيث عن خريجى التربية فيقول: مصيرهم الانضمام إلى طابور البطالة الطويل الذى أصبح 14 مليونا الآن، فعلينا أن نعلم أن خريج التربية يختلف تماما عن خريج أى كلية أخرى، فالآخر من المفترض أن يكون باحثا فى مجاله، أو متخصصا فى علمه، لكن ليس التدريس. ويفجر د. مغيث قضية خطيرة بقوله : نحن لا نطبق المعايير العالمية، فنحن لدينا عجز كبير فى المدرسين، فالنسبة لدينا هى مدرس لكل 18 تلميذا والمعروف هى مدرس لكل 9 تلاميذ بل هناك فى بعض الدول تصل إلى مدرس لكل 6 تلاميذ. ونحن لدينا ما يقرب من 80 كلية تربية ما بين تربية عامة ونوعية ورياضية، فأين يذهب خريجو هذه الكليات، فإذا كانت الدولة قد ألغت التكليف بحجة تقليص الميزانية فهى قد أضرت دون أن تدرى بالعملية التعليمية ككل.