نحن على أبواب شهر سبتمبر حيث رحل الرجل الكبير للموسيقى المصرية سيد درويش وتركنا عام 1923 ، ولهذه المناسبة إجتمعت ندوة «قنديل أم هاشم» تحتفل بذكراه وفيها أطل رجل يطلب الحوار، وما أن تلقفه حتى ألقى برأيه الخاص فى الوجوه : الرجل – ما تقولوش «سيد عمل النشيد» وعمل « كانى وماني» أهمية سيد درويش تكمن فى أنه شعبى .. وهو شعبى لأن ألحانه بسيطة وسهلة جدا وجدا ! المحاور – يعنى إيه شعبى ! هو سيد درويش مثل الريس متقال ماسك ربابه ! الرجل – لا .. متقال والرباب محدود ومغمور هناك فى الريف .. أو فى قرية فى الصعيد، أما الشيخ سيد فالمنتشر الأول عند كل الشعب .. لأنه شعبى حقيقى ! دارت على الوجوه حينئذ علامات الضحك الخفيض والمتوارى فقد أخطأ الرجل مرة وراء مرة وراء مرة، فلا سيد درويش فنان شعبى ولا ألحانه سهلة جدا وجدا، ولا هو المنتشر الأول عند كل الشعب، كما إن متقال ليس محدودا ولا هو مغمور! وعكس ذلك هو الصحيح .. عكس كل ما قاله !! حتى إننا لو قلبنا كل رأى من آرائه لضده لاستقام المعنى وباتت الفكرة صحيحة تماما .. ولنقم بقلب آرائه الآن وننظر لضدها الآن : • سيد درويش ليس فنانا شعبيا وإنما مدنى وممثل لغاية تطور موسيقى المدن . • سيد درويش منتشر عند فنانى المدن الكبرى فحسب وليس «عند كل الشعب» فلا الريف ولا البدو ولا الصعيد ولا السواحل ولا النوبة أو أسوان يعرفونه ! • متقال هو الفنان الشعبى شعبى حقيقى ! وفنه (مثل السيرة الشعبية والموال القصصي) منتشر على إمتداد مدن الصعيد كلها. • ألحان سيد درويش ليست سهلة المنال مقارنة بألحان متقال وبالالحان الشعبية عامة. • الألحان الشعبية كألحان متقال (وليست ألحان الشيخ سيد) سهلة جدا وجدا لأنها تتكون دائما من لحن واحد بسيط ومتكرر، ويكفى النظر لبناء الأغنية الشعبية الشهيرة «اما نعيمة « لرؤية هذا .. و» أما نعيمة « مكونة من لحن واحد وحيد، يشغل الكوبليه الأول : • أما نعيمة – نعمين – خلى عليوة يكلمني • أنا قلت لأبويا وشرت عليه يدفع لى المية وعشرة جنيه وسرير ودولاب والراديو عليه. أما نعيمة . . . . ثم يتكرر حرفيا فى الكوبليه الثانى : • أما نعيمة – نعمين – خلى عليوة يكلمني • أنا قلت لأخويا وشرت عليه ليجيب لى نحاس والبفته عليه ووابور وحصيرة والكنبه عليه – أما نعيمة . . . . وتجرى على هذا كل الكوبليهات ... فالأغنية الشعبية ككل الفلكلور الغنائى تعتمد على لحن واحد سهل و«غير متعرج» أى لا يمر بعدة مقامات أو عدة إيقاعات وإنما يستخدم مقام واحدا وحيدا وإيقاعا واحدا وحيدا. وهذا اللحن الواحد قصير ولابد أن يكون قصيرا ولا يشغل زمن كبير، ويقوم بالضرورة على عدد قليل من النغمات (أى قليل الحجم وعدد الخطوات) وعكس ذلك تماما تأتى ألحان المدن كألحان سيد درويش والتى لها دائما نغمات ومقامات عدة. واغانى الشيخ سيد الهامة مثل «أنا هويت» و«أنا عشقت» كثيرة التعرج وممتلئة بالتفاصيل والتحولات اللحنية وتغيرات النغم صعودا وهبوطا، قفزا وإنتقالا! يشهد على صعوبة أدائها كل موسيقى محترف. سيد درويش ليس سهلا بحال وإنما يبدو – من شدة تدفق ألحانه – سهلا .. واتصال ألحانه فى الاغنية الواحدة وتلاحمها كل هذه اللحمة يجعلها تبدو لحنا واحدا متصلا وبالتالى سهلة الترديد! يشهد على ذلك موشحه الصعب والمعجز والفريد .. متفوق الصياغة على كل ماعداه من موشحاتنا «منيتى عز إصطباري» .. الجوهرة المكتظة بالتبدلات اللحنية الرفيعة. والحقيقة إن الفارق بين «أما نعيمة» و«منيتي» هو ذلك الفارق الكبير بين عالمين كاملين. يظن البعض أن إنحياز سيد درويش للبسطاء والفقراء وتعبيره عنهم يعنى أنه « فنان شعبى » وربما نجد لهذا الظن عذرا .. إلا أنهم يعودون فينظرون لمطرب مثل محمد رشدى ليرونه فنانا شعبيا أيضا .. وفقط لأن لحنه الموسيقى بسيط ! ومطرب مثل شعبان عبد الرحيم لتشكل غنائه من جملة لحنية واحدة متكررة يصبح شعبيا هو الآخر! ناهيك عن ظنهم إن اللحن الراقص أيا كان لحنا شعبيا، ولابد والحال هكذا اعتبار المطرب الذى يستقدم أغنية أو طريقة شعبية من الريف ليقدمها فى دور الإذاعة والبث بالقاهرة (كما فعل أحمد عدوية حين استقدم الموال الريفى وصاغ على غراره) شعبيا كذلك !. وكأن صفات الراقص والمتكرر والثابت دون تنويع والساذج هى للحن الشعبى .. أو أن صفات التسطيح إنما تعود للموسيقى الشعبية المصرية «الفلكلور» ! وهى فى الحقيقة صفات أغانى القاهرة والعواصم الآنية واغانى الاذاعة والتلفزيون الحالية .. أى صفات تدهور موسيقى المدن ! وفى كل الأحوال لا ينبغى الخلط بين المدنى كأغانى شادية والشعبى كغناء الريس متقال ويجب التنبه إلى أن «الموسيقى المصرية تنقسم إلى شعبية ومدنية، وان الفن الشعبى «الفلكلور» هو ما ينتجه الشعب نفسه كالموال أو السيرة أو معزوفة المزمار لرقص الخيل، والمدنى هو ما تنتجه المدينة ذاتها كأغانى شادية وأسمهان، ولا يمكن لواحد ان يحل محل الآخر» فلكل منهما (المدنى والشعبي) مكان إقامة مستقل وكل منهما نتاج لحياة اجتماعية واقتصادية مختلفة»، والمدن لا تبدع فنا شعبيا ولا تملكه وإنما تستقدمه وتتشدق به . وإذ يستند الفن الشعبى إلى آلات موسيقية خاصة (مايعنى نغمات مختلفة) وتختلف آلاته بالضرورة عن آلات المدنى (كإختلاف المزمار الشعبى عن العود المدني) فإن إختلاف الآلات هذا هو بحق الفارق الحاسم بين الموسيقى الشعبية ككل والمدنية ككل ... بل والقاطع تماما بين متقال الشعبى صاحب الرباب وسيد درويش المدنى صاحب العود، ناهيك عن إختلاف المضمون الموسيقى إختلافا كليا بينهما : عندما يذهب العمال البناة فى وضع أساس لعمارة تقوم فى القريب فإنهم ينقسمون لمجموعتين .. واحدة تدفع بكرة الأحمال (أسمنت أو جبس أو طين) والأخرى تتلقفها وتطرحها جانبا لتدفع الأولى بالكرة الثانية فتتلقفها المجموعة الثانية مرة أخرى .. وهكذا تتحرك الأيادى ذهابا وإيابا. وحينئذ يشتعل غناؤهم مقسما ما بين المجموعتين بما يدعى فى أوراق الموسيقى «الغناء التبادلي» والذى يروح ويجيء ما بينهم (فى تعاقب) مع حركة أجسادهم للأمام وللخلف : مجموعة 1 شدوا الحيل مجموعة 2 هات يا بشندى مجموعة 1 ربك هادى مجموعة 2 ربك قادر مجموعة 1 ربك واهب مجموعة 2 ربك يعطي مجموعة 1 ربك يرحم مجموعة 2 ربك عالم مجموعة 1 ياالله وسمى مجموعة 2 هات يابشندى مجموعة 1 هون علينا مجموعة 2 يا مهون ومثال : مجموعة 1 هيلا هيلا مجموعة 2 صلوا ع النبي مجموعة 1 هيلا هيلا مجموعة 2 سايرة والنبي وهذا مضمون مختلف تماما عما للمدن فهو « فن جماعى « ، وإذا كان للمدن قوالب موسيقية (أنواع من الصياغة) غير معروفة للموسيقى الشعبية كالموشح والقصيد فإن للشعبية كذلك .. وهذا «الغناء التبادلي» غير معروف لسيد درويش أو للمدن، وهو النمط الأسهل حقا (السهل الممتنع) ولحنه هو الأقل نغما والأكثر تكرارا والأعم إنتشارا . وبما أن أصحاب هذا الفن الشعبى هم سكان الريف والصحراء والصعيد والسواحل والنوبة وأسوان وهم الاكثر عددا فلا يصح القول بأن فنان المدن سيد درويش هو «المنتشر الأول عند كل الشعب» وإن كان أكبر رجال الموسيقى العربية . ومسألة الخلط هذه (بين الشعبى والمدني) قد تحدث فى بلاد أوروبية بعيدة، إذا ما أعتقد بعضهم إن رجلا مثل بيتهوفن - لمجرد انتشاره الواسع - موسيقى شعبى ! مع أنه ممثل لموسيقى المدن الألمانية ويستخدم فرقة المدن «الاوركسترا السيمفوني» ! ويبدو من ذلك انه لا مهرب من وقوع هذا الخلط أحيانا فالبلاد الأوروبية كلها تعانى نفس الإنفصال المرير بين الشعبية والمدنية .. ووجود عالمين منفصلين فنا وثقافة فى إطار أمة واحدة !