في الندوة الدولية المغربية التي انعقدت في بداية عام 2003 قيل عن حادث 11/9 إنه« خلاف متوحش«. أما أنا فقد قلت عنه إنه »خلاف قاتل«. والفارق بين المتوحش والقاتل هو على النحو الآتي: » التوحش يعنى الخلو فيقال توحش جوفه أي خلا من الطعام،ومن ثم يكون الخلاف المتوحش هو خلاف يخلو من المتحاورين، أما القتل فيعنى إحداث الموت. وإذا طبقنا المقصود من المعنى اللغوي في التفرقة بين التوحش والقتل على الخلاف الذى حدث إثر 11/9 قلنا إنه خلاف قاتل بين العالم العربي والعالم الغربي. والسؤال إذن:لماذا هو خلاف قاتل بين العالميْن؟ جاء جوابي في البحث الذى ألقيته في تلك الندوة تحت عنوان » التراث والتنوير في الثقافتين الغربية والعربية«، وتساءلت ماذا كانا مغزاهما في الثقافتين؟ كان الفيلسوف الايرلندي ادموند بيرك ( 1729- 1797) أول فيلسوف يتناول العلاقة بين التراث والتنوير في كتابه المعنون «تأملات في الثورة الفرنسية» (1790) وفيه أثار التناقض الحاد بين التراث والتنوير، أي إما التراث وإما التنوير، وهو ينحاز إلى التراث ويرفض التنوير. ويدلل على انحيازه بأن الحرية من ثمار الوراثة تنتقل من الأجداد إلى الأحفاد، وبأن الإنسان لا يتطلع إلى المستقبل إنما يلقى نظرة إلى الوراء، ومن ثم فإن بيرك يستخف بالإبداع و ينظر إليه على أنه من ثمار الأنانية. وهكذا تصبح الوراثة مبدأ للمحافظة والتواصل، وقد ترتب على ذلك رفضه للتعليم المدني الذى يستند إلى معرفة الاحتياجات البدنية للبشر. وهذا في رأى بيرك نوع من الإلحاد. وتأسيساً على ذلك يرى بيرك أن السياسة ينبغي أن تتكيف مع الطبيعة البشرية وليس مع العقل الإنساني. ومن هنا فإن رجل السياسة يكون في حاجة إلى خبرة وغريزة وليس إلى حسابات عقلية. ومن هنا وقف ضد التنوير، لأن التنوير في رأيه يتوهم أن قدرة الانسان على التقدم هي بلا نهاية إذا التزم بسلطان العقل وليس بسلطان التراث. وهكذا يبتر بيرك العلاقة بين التراث والتنوير، ويكتفى بالتراث دون التنوير. إلا أن هذا البتر لم يكن له مستقبل، إذ بزغت الثورة العلمية والتكنولوجية مع بداية القرن العشرين متمثلة في نشوء الفيزياء النووية التىهي بداية تحكم الانسان في الكون. هذا ما حدث في الثقافة الغربية من قسمة ثنائية بين المحافظة على التراث وبين التنوير النافي للتراث، إلا أن الغلبة كانت للتنوير. والسؤال بعد ذلك: ماذا حدث في العالم الإسلامي؟ شاعت الدعوة الوهابية في القرن الثامن عشر وهى دعوة تلتزم التفسير الحرفي للنص الديني، أي عدم إعمال العقل. ومن هذه الزاوية قيل عن الوهابية إنها ترديد لأفكار ابن تيمية من القرن الثالث عشر ومحورها إنكار المنطق والفلسفة بدعوى أنهما أخطر أعداء العقيدة الاسلامية. وفى القرن العشرين تأسست حركة الاخوان المسلمين استناداً إلى الوهابية، أي استناداً إلى ابن تيمية. ثم جاء سيد قطب وفطن إلى أن أوروبا مصابة بمرض عقلي اسمه «الفصام النكد» بسبب مرورها بثلاثة عصور: النهضة و التنوير و الصناعة. وليس في الإمكان القضاء على ذلك المرض إلا بالحروب الدينية وليس بالوسائل السلمية. ونظَر لهذه الفكرة مفكر الثورة الايرانية على شريعاتى في كتابه المعنون «سوسيولوجيا الاسلام» وفيه يفسر التاريخ بمصطلحات دينية، إذ هو يرى أن قصة هابيل وقابيل هي بداية حرب مازالت مشتعلة حتى هذا الزمان. وكان الدين هو سلاح كل من هابيل وقابيل. وهذا هو السبب في أن حرب دين ضد دين هو الثابت في تاريخ البشرية. وبسبب هذه الحروب الدينية الضرورية فإن أهم مبدأ إسلامي هو قدرة الانسان على تقديم ذاته للاستشهاد. ومن هذه الزاوية فإن الموت ليس هو الذى يختار الشهيد إنما الشهيد هو الذى يختار الموت بإرادته. وهذا المبدأ هو الذى يحث المسلم على الانخراط في الحرب بلا تردد. والمسألة هنا ليست مسألة تراجيدية إنما هي مسألة نموذج يُحتذى لأن الشهادة بالدم أرفع درجات الكمال. ومعنى ذلك أن المسلم الحق هو الشهيد المناضل. واللافت للانتباه أنه ليس ثمة حركة اسلامية أخرى في مواجهة الوهابية المستندة إلى ابن تيمية. فالحركة التي كان من الممكن أن تقف في مواجهتها هي الحركة الرشدية المستندة إلى فلسفة ابن رشد من القرن الثاني عشر. إلا أن ابن رشد كان محاصراً من اثنين أحدهما الغزالي من القرن الحادي عشر والثاني هو ابن تيمية من القرن الثالث عشر، إذ عارض كل منهما إعمال العقل في النص الديني وذلك بسبب رفضهما للفلسفة. فالغزالي ألف كتابا عنوانه «تهافت الفلاسفة» كفر فيه الفلاسفة المسلمين بدعوى أنهم تأثروا بالفلسفة اليونانية الوثنية. أما الثاني فقد ألف كتابا عنوانه «درء تعارض العقل والنقل» ينقد فيه ابن رشد لتقديمه العقل على النقل عند التعارض وذلك لأن الأصل هو النقل وليس العقل. ولهذا ليس ثمة مبرر للتأويل على نحو ما يرى ابن رشد. وهكذا أُجهض ابن رشد في العالم الإسلامي وأصبحت الأولوية للنقل، أي للتراث، مع نفى سلطان العقل. وإذا كان التنوير يشير إلى سلطان العقل فمعنى ذلك أن التراث في العالم الإسلامي ناف لمفهوم التنوير. وتأسيساً على ذلك كله يمكن القول بأن ثمة خلافاً بين العالم الغربي والعالم الإسلامي، وأن التعامل مع ذلك الخلاف لا يكون إلا بالحرب ومن هنا جاء عنوان هذا المقال «خلاف قاتل». لمزيد من مقالات مراد وهبة