قرب بوابة قزوين, علي بعد نحو ستين كيلومترا شمال غرب طهران, اجتمعت جماعة الأربعة, وقررت اعتبار يوم الرابع عشر من فبراير عيدا للشعر والحب معا, لما قرأت الخبر تذكرت الإيراني صادق هدايت, وروايته البومة العمياء, التي أهداها إلي هذا الزمان وإلي أهله. خاصة أن إحدي شاعرات الجماعة أكدت أن سبب انتحار هدايت, هو أنه أحب امرأة سمع صوتها ولم يرها قط, وعندما حاول رؤيتها استعصت عليه, أغرتني الحكاية بالعودة إلي قصص صادق هدايت, ففاجأني بما كتبه عن جمشيد وآبجي خانم وشيرين, الأولان زوج وزوجة طالت بينهما الألفة والضعف فتآخيا, والثالثة صديقة آبجي, سمع جمشيد صوتها ولم يرها فأحبها, وكتب إليها رسائله, إنني مريض بك, وكتب, في الفجر لحست باطن قدمك, وبكيت من الشوق إليك, أنت فاتنة جدا, وكتب, الليلة وأنا فيك, أحس أني رئيس الملائكة, وكتب, اليوم حضنت روحك, واشتهيت جسدك, حضنت النور, واشتهيت النار, رسائل جمشيد تنتظر ابتسامة شيرين, وتجمع ثمار البرقوق من صوتها, وتقف تحت شجرة الرابع عشر من فبراير, ففيه, ومنذ ستين سنة, ولدتني أمي, وفي العشرين منه, قام أبي بقيدي في السجل المدني, فأصبحت صاحب ميلادين, ميلاد الحق, وميلاد الباطل,الميلاد الطبيعي,والميلاد الرسمي, أبي أيضا صاحب ميلادين, ومثلنا كان صادق هدايت, ولد في الرابع عشر من فبراير1903, وسجله أبوه في السابع عشر, لذا فكرت أن أحتفل اليوم بالأعياد كلها, لكن شاعرة بوابة قزوين, وثورة25 غلبتاني, فانجرفتا بي إلي الشعر والثورة, أحيانا أتخيل, خاصة في لحظات يأسي وقنوطي, أن ماحدث بعد الثورة, وحتي الآن هو ذلك الطفح الذي يعقب الثورات ويغطي وجه الأرض, شعراء ووزراء وصحفيون ومتكلمون وروائيون وأوباش ونجوم, كلهم يشبهون الجديري الذي يصاحب الثورات, فيكون دائما نقيضا لها, تتقدم هي, وتتراجع الطموحات العاجلة والآمال الصغري والفنون والآداب ومنها الشعر, وتسير هي نحو المستقبل, ويسير هو نحو الماضي, ويكون الصراع الحاسم, هو صراع العهدين, أهل الماضي, وأهل المستقبل, خاصة أن ديكتاتورنا كانت مهارته تفوق مهارة أسلافه الفاسدين فساد السلطة الطبيعي, ديكتاتورنا حرص علي أن نفسد جميعا, وألا يقتصر الفساد عليه وعلي حاشيته, لأن قوانين الفيزياء البشرية تقول: الفاسد لا يثور, وثورة25 هي ثورة شباب لم يفسدوا بعد, والقوي المعادية لهم, أغلبها من ضحايا الديكتاتور, أغلبها فاسدون, لذا فكرت أن أحمي نفسي من كراهية نفسي, وأن أحميها من كراهية الشعر,الذي أصبحت أساليب إلقائه هرمة وفي حاجة إلي الهدم, فكرت في أعمدة السلطة المانعة للتوصيل والتواصل, فمنصة الشعر سلطة, والصوت العالي سلطة, والنخاس الذي يقدم الشعراء إلي الجمهور سلطة, وتصفيق الجمهور طقس غريزة أولا, ثم طقس سلطة, وحاولت أن أتخيل الثورة وكأنها حمامة برية بأجنحة بيضاء ومنقار حاد, لكن أبنائي: مينا دانيال غاب تحت الأرض, وأحمد حرارة اكتفي بالنظر إلي باطنه, والشيخ عماد خذلني واختفي, والثورة مازالت مستمرة علي الطريق, وأشعارها تطاردها بالمديح غليظ الصوت, الشعر العربي القديم كان قد استقر علي قالب واحد, هو القالب العمودي, وكان كل شاعر يعرف قضاء الخضوع, وقدر التسليم لهذا القالب, وكانت كل المناسبات, الحياة والعرس والحروب والموت, تصلح لأن تكون سببا للكتابة, لذا كان الشاعر يخوض حربين علنيتين, الأولي ضد القالب, والثانية ضد المناسبة, وفي أثنائهما يخوض حربا سرية داخل ذاته, والشعراء الكبار هم الذين نجحوا في الحربين العلنيتين, وأجبروا القالب والمناسبة علي الإقامة في الظل, وأيضا نجحوا في فتح أبواب الغرف الموصدة الموجودة داخل ذواتهم, وكانت انتصاراتهم هي السبيل الوحيد إلي اختلاف أشعارهم, وتعددها وتجددها, كانت هي السبيل إلي تمايزهم, أما الأغلبية من الذين هزمتهم المناسبة والقالب, وصدتهم أبواب الغرف, فإن هزائمهم ذهبت بهم إلي أودية النسيان, نستطيع الآن أن نحس الفوارق الكبري بين أنفاس المتنبي وأنفاس الشريف الرضي, بين أبي نواس وأبي تمام, بين ابن الرومي وأبي العلاء, وعلي الرغم من القضاء والقدر الماثلين في مهابة القالب ومهانة المناسبة, كنت أفكر في أن يكون خطاب حبي لصادق هدايت الذي أعده بسبب الرابع عشر من فبراير, تذكيرا بالحركات الاجتماعية والسياسية والفكرية عبر تاريخنا, والتي نجحت في أن تجعل أيقونة الشعر, أيقونة منفعة, ومرآة الشاعر, مرآة عمياء, وكرست بالتالي للمعني الوظيفي عند النظر العام إلي كل فنوننا, فأصبح شعر أيامنا محكوما عليه بالنشوء والارتقاء خارج الرحم,بالنشوء والارتقاء خارج ذاتيته, التي بدونها لا تصل تجربة الشاعر إلي جوهرها الإبداعي, والتي بدونها يصبح الشعر محض أداة يستهلكها محيطها الخارجي,وتخضع للحدث والحادثة,للموضوع والمغزي,للفكرة والسياق,وأمام هذا المنطق تتحول الثورات إلي أحداث وأفكار,فيفسد شعرها وينحط,يفسد شعرها,ويفسد الآداب المصاحبة له,والغريب,الذي ينكره العلماء منا,أنه إذا حدث ذلك للشعر,أصبح الأدب كله علي حافة الهاوية,والشاعر الذي يتعلق بتلابيب ثورة هكذا,غالبا ما يحاول أن ينوب عن شعبه,غالبا ما يرتد من الكتابة إلي الشفاهة,ومن القصيدة إلي النشيد,غالبا ما يكذب ويحرر فلسطين في قصائده فنصفق,غالبا ما يختفي كفرد بحنجرة نحيلة,ويظهر كجماعة بحنجرة شعب مصلوب,والثورة تحيا بالأحلام والآمال التي تجري في شرايينها,وتموت إذا صارت محض حوادث,وأشعارها تسقط إذا اعتلت صهوة تلك الحوادث,الغريب أن شعراء الحداثة,سواء الذين نقلوا الشعر من عموده إلي تفعيلته,أو الذين نقلوه من تفعيلته إلي نثره,أو الذين لا يعرفون سوي نثره,ويظنونه نثر الدر,ويظنون أنفسهم شجر الدر,الغريب أيضا أنهم جميعا وتحت وطأة الثورة,وتحت وطأة مباشرتها,قتلوا إله الشعر,قتلوه في السماء,وفي الميدان,وعلي قارعة الطريق,الشعراء الأولون والثانون,أعانتهم معرفتهم بالقالب والمناسبة في إعادة الاستناد إليهما,والاستناد غير التحدي,الاستناد خضوع وقبول,والتحدي رفض وممانعة,الاستناد يجبر الشاعر علي التخلي عن شخصيته,والتحدي حفاوة بذاتية الشاعر,ولقد أدي الاستناد الميسور ببعض شعراء الثورة إلي ركاكة معهودة,علي الرغم من فصاحتهم المعهودة أيضا,أما الشعراء التقليديون من الشباب,فكانوا أقصر قامة من الثوار الشباب, الذين لا يطاولهم أحد,الصحيح أن نقول كانوا أقزاما,والعلة في ذلك ترجع إلي أن شعرهم أفسدهم,لأنه ذهب بهم إلي الآبار العكرة,آبار النفط والمال وشاعر المليون وأمير الشعراء,وكلها حكر علي أنصار العهد القديم,وعلي ثقافته التي احتفت بالقالب كتقليد معصوم,وبالمناسبة كمثير شعري واجب,وبالقيم القديمة كأخلاق حميدة,وبالمال كعطاء ونوال,هؤلاء الشعراء الشباب التفوا حول عمود الخيمة,واستندوا إليه استنادا لا يبيح لهم حرية الإبداع,يبيح لهم فقط حرية المسخ,فلما كانت الثورة,لم يحتاجوا إلي تغيير أدواتهم,اكتفوا بإنشاء المنصات ورفع الميكروفونات أعلي الميدان,وبثوا قصائدهم المكتوبة علي أوراق نتيجة الحائط,بمقاس حناجرهم,وبمقاس الحادثة, ولأن الوجدان العام إذا اتسع جلبابه جدا,وأصبح بحجم شعب كبير,احتاج إلي وسائط مضمونة في الشكل وفي المعني,والقالب والمناسبة يسهلان العثور علي هذه الوسائط,ومع ذلك كانت هتافات الميدان أغني من شعرية المنصات,أما الشعراء الحداثيون من الشباب,فقد سحبتهم الثورة من حناجرهم الملساء المنسية,وأجبرتهم علي التنازل عن دعاويهم,فأهالوا التراب فجأة علي شعرية اليومي والتفاصيل الصغيرة والجسد والأنا والفرد ونصف الفرد,وبسرعة,وفي غضون حدث لم يتوقعوه,كتبوا كتابات تصلح لتبديدهم ونسيانهم,وللتذكير بأنهم بلا أدوات تلائم الحدث,التذكير بأنهم أقصر قامة حتي من المنفلوطي,ومثل الكأس المكسورة أصبحوا وطنيين فجأة,يقول جان جينيه ولينين: الوطنية هي الملاذ الأخير للأنذال,ويقول جمشيد: الطائر الذي ذهب إلي ديار أخري لن يعود,والشاعر طفل في لغته,وشيرين تقرأ: لماذا تخليت عني, وصادق هدايت يغني: أنا أنا البلبل الحيران, أطير في السهل والجبل, قتلتني أمي العاطلة, أكلني أبي الجبان, أما أختي الحزينة, فغسلت عظامي سبع مرات بماء الورد, ودفنتني تحت شجرة ورد, وصرت أنا البلبل وحيدا, بربربربر. المزيد من مقالات عبدالمنعم رمضان