بداية فأنا لست من الذين يؤمنون بأنه لابد أن يلتزم أي كاتب سيناريو إذا ما تناول عملا أدبيا بكل ما جاء في هذا العمل من أفكار وتفاصيل . ذلك لأنني أري دائما أن كاتب السيناريو هو الآخر مبدع، وأنه يقوم في هذا الصدد بعملية إبداعية وهي نقل عمل فني من وسيط إلي وسيط آخر . وعلي ذلك فإن لديه الحرية المطلقة في أن يفعل مايشاء حتي ولو قدم لنا في النهاية عملا فنيا يختلف كثيرا عن العمل الأدبي الذي قام بتناوله . وفي هذه الحالة فإننا ننظر إلي العمل الجديد علي أنه عمل مستقل ينسب إلي كاتب السيناريو وعلينا أن نقوم بتقييمه وفقا للمقاييس أو الأسس الفنية . وقبل كل شئ أحب أن أشيد بما فعله كاتب السيناريو عبد الرحيم كمال عندما ذكر في عناوين مسلسله الدرامي التليفزيوني «دهشة» أنه مأخوذ عن مسرحية شيكسبير «الملك لير» مع أنه كان يمكنه ألا يذكر هذا، حيث إن شيكسبير لم يخترع موضوعا لم يتناوله أحد من قبله أو بعده فالمسرحية تدور حول عقوق الآباء أو أن الثقة الزائدة مدمرة أو الصراع بين الخير والشر أو أن الحب لاتزعزعه الإساءة أو أن الأنانية لا تخفف من حدثها الشفقة أو كما قال الأستاذ أ . س . برادلي أفضل من كتب عن التراجيديا الشيكسبيرية بأن هناك قوي كونية هائلة تعمل في محيط أقدار البشر ومشاعرهم ، قوي في هذا العالم المظلم البارد حاقدة ومدمرة . فإن أيا من هذه الأفكار أو التيمات التي تدور حولها أحداث مسرحية «الملك لير» تصلح لأن تكون موضوعا لعمل فني ينسب إلي صانعه خاصة أن مسرحية الملك لير أجمع كثير من النقاد علي أن بها الكثير من العيوب وتفتقد إلي الإحكام الدرامي ولكن ليس هذا هو موضوعنا . ويختلف عبد الرحيم كمال في أمانته الأدبية التي لانجدها عند كثير من كتاب السيناريو في مصر منذ أوائل دخول فن كتابة السيناريو خاصة هذا العام والعام السابق حيث قام معظم هؤلاء الكتاب بالسطو علي الأفلام الأجنبية وبعض روايات دان براون ونسبوها إلي أنفسهم في أعمال تفتقر إلي الروح المصرية . وبدافع من الجهل قام معظم من كتبوا عن هذه الأعمال بالاشادة بعبقرية قرائح مؤلفيها . مسلسل «دهشة» عمل تراجيدي أي أن بطله ينتقل من حال من السعادة والرغد إلي حال من البؤس والنداب أو ينتهي بالموت الناجع وذلك نتيجة اقترافه ما يعرف بالخطأ التراجيدي hamarria أو tragic erron والخطأ التراجيدي هو خطأ في الحكم ينشأ من الجهل أو نقص أخلاقي . ويشير أرسطو في هذا الصدد إلي أنه يجب علي البطل التراجيدي أن يكون رجلا تداهمه التعاسة ليس من خلال رذيلة أو فسوق ولكن بسبب غلطة . وعلي سبيل المثال فإن أوديب يقتل أباه نتيجة اندفاع أحمق ويتزوج أمه وذلك بدافع الجهل وتقع فيدرا في عشق هيبوليت ابن زوجها . ويكون هذا الخطأ هو السبب في سقوط البطل أو البطلة مما يثير الشفقة والخوف عند المتلقي حيث إن البطل لا يستحق هذا العقاب . يقدم شيكسبير في مسرحية «الملك لير» رجلا يحب بناته حبا يفوق الخيال ويود منهن مكافأته علي هذا الحب حتي إنه يختبر كل واحدة عن مدي حبها له . تخدعه اثنتان منهن بالحب الزائف وتصدقه الثالثة بعاطفتها التي لا تشفي له غليل . ولذلك فإنه يحرمها عند تقسيم مملكته . وقد لقي هذا التصرف استنكار الكثير من النقاد وحاول البعض تبرير ذلك بضعف عقله لكونه طاعنا في السن . اختار كاتب السيناريو عبدالرحيم كمال بيئة الصعيد لتدور فيها أحداث مسلسله واختار أيضا زمنا بعيدا فزاد من الصعوبة علي نفسه . كان لابد أن يضع في ذهنه أشياء في غاية الأهمية وهي أن الصعيد غير إنجلترا خاصة الصعيد القديم . إن مكانه البنت بل مكانه المرأة عامة في إنجلترا مهما قدم الزمن غير مكانة المرأة في الصعيد . فالمرأة في إنجلترا منذ زمن بعيد لا تختلف في مكانتها عن الرجل فهي ترث كل شئ المال والجاة وأن أعظم ملوك إنجلترا من الملكات مثل الملكة إليزابيث الأولي والملكة فكتوريا بل إن أعظم عهود الأدب الإنجليزي كان في عصري هاتين الملكتين . أما عندنا في الصعيد فالأمر يختلف تماما فإن الأب يحزن كثيرا عندما ينجب ابنة ويزهو كثيرا بانجاب الصبية . وفي كثير من الحالات لا ترث البنت شيئا من أبيها الذي يتعجل زواجها حتي يسلم من القيل والقال. وتتزوج الابنة من رجل يتناسب مع مكانة عائلتها وخاصة مكانة الأب الذي قد يعوضها عن عدم توريثه لها بأن يحصل لها علي شوار كبير. وتظل الابنة وهي في بيت زوجها تطيع أوامر أبيها الطاعة الكاملة ولا تشعر نحوه بأي كراهية أو تجمده. ولا يستطيع زوجها أن يجبرها علي ذلك بل يبدي احترامه الكامل لوالد زوجته خاصة عندما يكون الأب ذا شأن كبير. وهذا ما يفتقده المسلسل فلو دارت الأحداث في بيئة أخري وزمن آخر لتحقيق وظيفة المحاكاة وهي إمكانية الوقوع. فلو جري زرع شخصيات المسلسل في بيئة أكثر مرونة في ممارسة العادات والتقاليد لكانت الأمور أفضل مما هي في مسلسل «دهشة» أو كان علي الكاتب أن يستعيض بالأولاد وليست البنات. ولكن أهم ما في الأمر هو شخصية »الباسل« فهو يختلف إلي حد كبير عن شخصية الملك لير.فشيكسبير كما يقول الأستاذ برادلي درامي من أعلي رأسه حتي أخمص قدميه وهو يقيس شخصياته بمقياس دقيق للغاية. ويحاول أن يراعي دائما الأصول الدرامية علي خير ما يرام. لم يكن لير متعجرفا ولكنه كان غبيا حتي إن النقاد وصفوا ما فعله في بداية المسرحية بأنه بعيد الاحتمال إلي حد السخيف وأنه حسب قول أرسطو بالممكن المستحيل. كيف لرجل لديه ذرة من العقل يفكر في تقسيم مملكته بين بناته بنسبة قوة الأدلة الكثيرة التي تدلل بها كل واحدة منهن علي حبها له؟ ويرجع برادلي سخافة هذا الأمر لأنه يفشي الوضع الحقيقي للأمور «أمام وعي أكثر تيقظا مما يمكن توقعه في رواد المسرح أو مما ظهر وجوده عند كثيرين من نقاد المسرح.» ورغم هذه الانتقادات فإن هذا التقسيم لابنتيه هو السقطة التراجيدية التي اقترفها لير وكذلك الباسل في مسلسل «دهشة» ولكن لير طيب لا يستحق كل هذا الجحود وكل هذا العذاب ولذلك نتعاطف معه ونشفق عليه في حين أن الباسل يجني نتيجة عجرفته ومعاملته البالغة السوء لمن حوله خاصة زوجي ابنتيه الذي اعتاد أن يسيء معاملتهما خاصة عامر الذي بعد أن رسمه عمدة يعايره بقسوة بأنه كان خادما عنده بطريقة تثير غضبنا عليه وتجعلنا نتعاطف مع عامر ونتشفي فيه عندما يتدهور به الحال ويلقي جحود ابنتيه نوال ورابحة. ويصبح الباسل في هذه الحالة ليس بطلا تراجيديا يثير مصيره فينا الشفقة والخوف بل وغدا ينال جزاءه علي أيد ابنته وزوجيهما ويصبح غير جدير بحب ابنته الصغري التي ظلمها بغبائه. إن شيكسبير لايختار الأشرار ليكونوا أبطال تراجيدياته ولكنه يختار الأخيار. حتي مكبث فلا نراه شريرا في بداية مسرحيته «مكبث» بل يصفه بكل آيات النيل ولكن تتغلب عليه قوي الشر ثم يجعلنا شيكسبير نتعاطف معه بعد ذلك نتيجة ما وقع عليه من آلام نفسية فوق طاقة أي بشر بعد إرتكاب جريمته. إن الخطأ التراجيدي عند مكبث في إنه إنسان سهل الإنقياد ولست أعرف لماذا يحرص كاتب سيناريو مسلسل «دهشة» علي تدنيس شخصياته. فنحن نجد في الخط الثانوي أو المساعد الذي يضم علام وابنه الشرعي منتصر وابنه الآخر الذي أنجبه من إحدي الساقطات التي تدير بيتا للدعارة نري علام هذا في صورة رجل شرير بلا ضمير ولا هم له إلا تدخين الحشيش ومعاقرة الخمر ومعاشرة الساقطات. إما ابنه منصور فإنه يقع بطريقة مضحكة في غرام ساقطة في بيت عشيقة أبيه وهو يحسبها فتاة طاهرة الذيل حتي إنه يستجيب بسرعة لمحاولات أخيه ابن السفاح للإيقاع به. وعندما يتزوج منتصر هذه الساقطة عجمية ويكتشف أنها ليست عذراء يجن جنونه. هل من المعقول أن يدخل شاب مثل منتصر مهما تكن درجة براءته وسذاجته بيتا يدار للرقص والغناء والدعارة ويعتقد أنه سيجد في هذا البيت فتاة طاهرة الذيل وعذراء؟ ولذلك كانت ثورته تثير الضحك والسخرية. فالخط الثانوي حسبما نجده في كل مسرحياته شيكسبير هو تكرار لموضوع القصة الرئيسي وهذا ما ينفرد به شيكسبير كما يقول برادلي عن أي مؤلف آخر «فهنا وهناك تجد. تجد وجلا مسنا «ذا لحية بيضاء» وهو مثل الملك لير إنسان ودود لايعرف الشك غير أنه غبي وعنيد وهو كذلك يسيء إساءة شديدة الي صبية من الصبية التي يؤثرها علي غيرها. وللأسف أيضا فإن عنصر الديكور في مسلسل «دهشة» لايتوافق مع عظمة الشخصية بل إن الديكورات الخاصة بعائلة الباسل لاتنم بوجه عام عن أساس في مستوي عائلة الباسل. فالديكور عنصر أساسي في الدراما وهو يرسم دائما خلفية الشخصية بل إنه أحيانا يفصح عن معالم الشخصية ويكون له دلالته. وقد يبرر المخرج ومهندس الديكور بأن الأحداث تقع في فترة زمنية بعيدة (وهي كما سبق وإن أشرنا بأنها من عيوب المسلسل) فإنني أقول إن لكل عصر مايبرز ثراءه ويحدد مستوي الشخصيات المادي. وهذا مانجده دائما في أعمال صناع السينما والتليفزيون في أمريكا وأوروبا. ويجب أن يضع صانعو مسلسل «دهشة» في أذهانهم أن هناك فرقا بين التراجيديا والكآبة ،فالتراجيديا تغسل نفوسنا من خلال ماتثيره في نفوسنا من شفقة وخوف وتطهرنا في النهاية عندما تضع أنفسنا في موضع البطل التراجيدي. أما الكآبة فإنها تمرضنا وتثقلنا بالهموم وتجعلنا نكره الحياة. وقد اشتكي لي بعض الذين يشاهدون هذا المسلسل من إحساسهم بالكآبة عند مشاهدته حتي انصرفوا في النهاية عن مشاهدته، فأرجعت أن هناك سببا دراميا وهو عدم رضائهم عما يحدث أمامهم مما قد ذكرناه من عيوب درامية. وهناك سبب فني أيضا في غاية الأهمية ولكنه يتعلق بتقنية تصوير المسلسل. يعتبر سمير بهزان من أبرز مديري التصوير السينمائي ولكنه لم يراع بأن هذا العمل الفني إنما هو مسلسل سوف يعرض علي شاشة التليفزيون وعلي الأكثر علي شاشات صغيرة تكثف من حدة الظلام أكثر مما تكثفه شاشة السينما وذلك لفروق تكنولوجية لابد أن يكون علي دراية بها مدير تصوير مثل سمير بهزان. فالاضاءة المظلمة علي شاشة جهاز التليفزيون ليست مستحبة وأيضا اللقطات العامة. وليس لهذه التقنية في الإضاءة دلالة درامية كما هي في السينما وعامة فإن الإظلام الكثير في السينما والتليفزيون لا يستسيغه الجمهور إلا إذا تم توظيفه دراميا بشكل صحيح كما حدث في فيلم « انتظر حتي يحل الظلام» الذي أخرجه المبدع تيرنس يونج وقامت ببطولته الرائعة أودري هيبورن في دور عمياء. أما بالنسبة للإخراج في مسلسل «دهشة» فقد سبق وأن أبديت اعجابي بالمخرج شادي الفخراني في مسلسله «الخواجة عبدالقادر» وهو مخرج راسخ يجيد اختيار أحجام لقطاته التي تناسب شاشة التليفزيون ويقتصد في استخدام اللقطات العامة حتي يبتعد عن التغريب والغموض البصري. وحركة الكاميرا عنده تتحرك لغرض ويستطيع من خلالها أن يوجد إيقاعا لانجده عند معظم من يعملون حاليا في الإخراج التليفزيوني. أما تكوينات كادراته فإنها تنم عن ذوق رفيع مع إدارة جيدة للممثل داخل اللقطة. وهو بتمكنه هذا لاينقصه سوي التمكن في مراجعة السيناريوهات مراجعة دقيقة وقد يساعده في هذا أن يعمل علي زيادة ثقافته الدرامية والثقافة بوجه عام. فالثقافة تصقل الموهبة. وأنصح أيضا بنفس ما أقوله للكاتب عبدالرحيم كمال فهو كاتب يحلق في أجواء خاصة به وذلك بأسلوب ينفرد به ويخوض في الصعب من الموضوعات. ولعله لا يغضب مما قلته فإنه هو وشادي لايزالان في أول الطريق وأنا مثلا كتبت أكثر من مائة فيلم وما يقرب من الأربعين عملا دراميا للتليفزيون ومازلت أري أنني في أول الطريق. أما بالنسبة لأيقونة التمثيل يحيي الفخراني فقد برع براعة فائقة فيما أتيح له من مواقف درامية تختلف في تناقصاتها حتي كان أحيانا يغرد وحيدا منفردا بحيث يجعلك تنسي العيوب الدرامية التي يخوض فيها المسلسل. ولذلك أنصحه أن يدقق دائما فيما يختار لتمثيله ولاتخدعه فقط الفكرة، فالفن ليس مجرد فكرة جميلة ولكنه بناء محكم. ولن أتحدث عن بقية الممثلين سوي عن الأيقونة الثانية عايدة عبدالعزيز فكلما شاهدتها في أحد الأعمال في السينما أو في المسرح أو في التليفزيون أدرك أن هذا العمل تقل قيمته كثيرا لو غابت عنه عايدة عبدالعزيز.