مسلسل "دهشة" في تقديرنا هو درة أعمال الدراما التليفزيونية المصرية والعربية في 2014. وقد كتبه عبد الرحيم كمال، ممصراً أو بالأدق مستلهماً مسرحية ويليام شكسبير "الملك لير"، ويعد في مقدمة كتابنا فيما بعد جيل عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن ويسري الجندي ومحسن زايد، وأخرجه شادي الفخراني أحد أقدر وأرهف مخرجينا الشباب، وقام ببطولته الممثل الكبير يحيى الفخراني، وهي نفس الكوكبة التي سبق لها، مؤلفاً ومخرجاً وبطلاً، تقديم المسلسل بالغ التميز والرهافة، رائعتهم "الخواجة عبد القادر". و"لير" الملك في تراجيديا شكسبير، أو "الباسل" الأوسع نفوذاً وثراء في بلدة تسمى "دهشة" في دراما عبد الرحيم كمال، هو البطل الذي يقع ككل بطل تراجيدي في غلطة تراجيدية مهلكة، تظل تلاحقه إلى نهاية المآل، وهو "عزيز قوم ذل"، على حد عبارة الحديث الجليل الذي يوصينا بأن نرحم كل من كان على هذه الحال، وإلا فهذه هي القسوة في ذروتها، ولذلك فنحن إزاء حكاية قاسية إلى أبعد مدى، عن البطل الذي حسب أن قيمته ومهابته في ذاته وليس فيما يملكه، فتنازل طواعية عن كل ما يملك إلى بناته، متصوراً أنه سيظل مع ذلك يعيش مكرماً مهاباً طول الوقت، لكن لم يلبث أن خاب ظنه وسعيه، وهذه هي القسوة التي عاناها مدى الحياة!. ولقد بدأت غلطته المنهكة، بل المهلكة، من لحظة أن ربط خطأ بين أن يعطي أكثر، مما يملك، لمن يعبر عن حبه له أكثر، فبالغت بل نافقت البنتان الكبرى والوسطى في التعبير عن الحب الجم، بينما كانت البنت الصغرى الأصدق في أن حبها لأبيها أعمق من المقدرة على الوصف أو التعبير.. فكيف أن المحبوب لا يشعر بالحب الحق في قلب المحب الحق حتى من غير افصاح أو حديث!. لكن الرجل في موقف التسرع والغشاوة، أجزل العطاء لمن بالغ أكثر وثرثر، ومنعه كلياً عن فتاة البراءة والمحبة العميقة، التي وجدت أن الحب أجمل وأعمق من أن نحاول التعبير عنه، وأنه يفوق كل وصف!!.. كما لا تخلو في نظرنا، قصة البنتين مع أختهما الصغرى "نعمة" (يسرا اللوزي) وأبيهن، من تأثر كمال، إن لم يكن شكسبير في الأصل، بقصة أخوة النبي يوسف. إن القول الجليل النبيل: "ارحموا عزيز قوم ذل"، هو نفس المعنى في الحلقة (19). إذ يقول الباسل لزوج ابنته، ولهذه الابنة رابحة (حنان مطاوع)، وهما يطردانه: "احفظ كرامة الشيبة يا ولدي..احفظوا كرامة الشيبة يا رابحة..". كان المشهد عظيماً، ما بين الفخراني بأداء فذ، وحنان مطاوع بتمثيل أخاذ… أعقبه "الباسل"، بنفس المستوى من الأداء الاستثنائي للفخراني، إذ يضطرب ويهيم في الخلاء، حافي القدمين متوجهاً في نهاية المشهد، بشكواه لربه ثم يدعو على بناته بأن يحل عليهن غضبه.. مردداً: "شفت بناتي عملوا فيا إيه.. إدتهم كل حاجة.. وضربوني بالمركوب.. يارب أنا بقيت قليل الحيلة.. محدش ياخدلي حقي غيرك.. أنا أب ومتهان.. اجعل دنيتهم لعنتهم..اطردهم من رحمتك وارحمني.. ارحمني يارب..". وإلى جانب اقتدار الفخراني، رأينا براعة مجمل الذين أدوا "دهشة"، ويتصدرهم الممثلون الراسخون عايدة عبد العزيز ونبيل الحلفاوي وعايدة رياض وسعيد طرابيك، والبارعون فتحي عبد الوهاب ويسرا اللوزي وسماح السعيد، أما حنان مطاوع فهي تؤكد مجدداً، خاصة بعدما رأيناها من قبل في أدائها الخلاب كبطلة لمسرحية الحكيم "السلطان الحائر"، أنها في أجيال الأداء الحديثة تعتبر الفنانة الجديرة بحق بأن تكون سيدة المسرح والأعمال الدرامية الكبرى في هذا العصر، وسوف تجد موقعها المتميز، و"مزاياها النسبية" أي بالنسبة لهذه الأجيال، كلما تسنت لها مثل هذه الأدوار، وخاصة عند عودة المسرح المصري حاضراً نابضاً بعد غياب طال، وهي عودة ضرورية ستفرض نفسها، وتعوض غيابه الآن أعمال درامية كبرى من طراز "دهشة"، نتمنى أن نرى مزيداً منها.