ربما تكون الولاياتالمتحدة هى الأقوى اقتصادياً على مستوى العالم، وليس من المستبعد أن تتمتع بقدرات عسكرية تفوق أية قوى أخرى، كذلك هناك نوع من التوافق على أن مراكزها للأبحاث وإمكاناتها التكنولوجيا هى الأكثر تقدماً عالمياً. ولكن لا ينبغى أن ننسى أن هذا التفوق أنما يرجع فى جزء أساسى منه إلى الدور الذى لعبه الدولار كالعملة المقبولة عالمياً فى التعامل الدولى. فالدولار ليس مجرد عملة وطنية، بل هو أيضاً، وبالدرجة الأولى، عملة التعامل المالى والنقدى فى العالم. وبذلك، أصبح العالم مسئولاً بشكل أو بآخر عن حماية إستقرار هذه العملة. ويعتبر إحتلال الدولار لمكانته فى العلاقات الاقتصادية هو أكبر قصة نجاح للسياسة الأمريكية. فالخاسر الأكبر من ضعف الدولار هو العالم الخارجى، أما التاثير على الإقتصاد الأمريكى المحلى فهو عادة أقل حدة. فكيف حدث ذلك؟ لست من أنصار نظرية المؤامرة، ولكنى أعتقد أن الطبيعة بجميع مظاهرها تحابى الأقوياء، وجاء انتصار الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية ليعطى الولاياتالمتحدة دوراً مميزاً فى العلاقات الدولية، ومن بينها إعادة ترتيب أوضاع الاقتصاد الدولى. وقد إستغلت الولاياتالمتحدة الفرصة وحرصت على أن يلعب الدولار الدور الرئيسى فى نظام النقد العالمى الجديد صندوق النقد الدولى. وفى هذه اللحظة الحرجة، كانت تلك الحرب قد أنهكت الجميع، المنتصرين والمنهزمين معاً، فخرجت ألمانيا محطمة بعد الحرب وتعرضت اليابان للقنابل الذرية، ولم يكن وضع الحلفاء أفضل، فقد أنهك الاتحاد السوفيتى وإن توسع فى أوروبا الشرقية وأثقلت الديون الخزانة البريطانية كما فقدت فرنسا العديد من أصولها وهى تحت الاحتلال الألمانى. أما الولاياتالمتحدة فقد أنهت الحرب وهى فى قمة النجاح الاقتصادى إضافة إلى التفوق العسكرى وعندما دخلت الولاياتالمتحدة الحرب فى منتصفها، فإنها لم تضطر إلى تحويل اقتصادها المدنى إلى اقتصاد حربى، بقدر ما إستطاعت أن تبنى اقتصاداً عسكرياً موازياً دون إضعاف لاقتصادها المدنى. وبإنتهاء الحرب، لم تواجه الولاياتالمتحدة مشكلة إعادة بناء الاقتصاد المدنى حيث لم تتعرض أمريكا لأى إعتداء مباشر عليها، وإنما كانت المشكلة هى فى كيفية تصفية اقتصاد الحرب وتحويله إلى الاقتصاد المدنى دون تعريض الاقتصاد الوطنى للكساد. ومن هنا كان مشروع مارشال مفيداً للاقتصاد الأمريكى، بما تضمنه ذلك من العمل على تصفية الاقتصاد الحربى بشكل متدرج وبغير مفاجأة، حيث كان يمكن أن تترتب عليه آثار إنكماشية هائلة. وجاءت اتفاقيات بريتون وودز التى أسست البنك الدولى وصندوق النقد الدولى لتوفر الظروف المناسبة لوضع أسس نظام نقدى جديد. وكانت أوروبا قد عرفت، فى الفترة السابقة على قيام الحرب العالمية، ما يشبه الحروب الاقتصادية بين الدول. فلجأت معظم الدول إلى الحماية الجمركية المبالغ فيها، وإلى الإقتصاد المغلق إن أمكن وتخفيض أسعار العملات للحصول على مزايا على حساب الآخرين. وبذلك جاءت النبرة الجديدة بعد الحرب للدعوة لمزيد من التعاون والانفتاح على الدول الأخرى وأن حرية التجارة واستقرار أسعار الصرف وحرية انتقال الأموال، كل هذا لا يؤدى فقط إلى مزيد من الكفاءة الاقتصادية بل أنه يدعم تحقيق السلام والتعاون الدولى. وقد كان إنشاء صندوق النقد الدولى هو البذرة التى ساعدت على أن يصبح الدولار الأمريكى هو عملة التداول العالمى. لعبت الولاياتالمتحدةوإنجلترا الدور الرئيسى فى تشكيل صندوق النقد الدولى وبالتالى فى تصميم نظام النقد الدولى كما عرفناه خلال السبعة عقود الماضية. وكان يمثل إنجلترا اللورد كينز الاقتصادى الأشهر فى القرن العشرين فى حين كان اللاعب الأمريكى الأكثر تأثيراً هو وكيل الخزانة الأمريكية وايت. وانتهى الأمر بغلبة الرؤية الأمريكية. وكان كينز يرى أن يصبح صندوق النقد الدولى المقترح كنوع من البنك، الذى يخلق نقوداً من خلال ما يقدمه من إئتمان لعملائه، وهو بذلك ليس فى حاجة إلى رأس مال، ويكفى أن نضع القواعد المنظمة لمنح البنك لائتمانه، بل أنه اقترح اسماً لهذه النقود الدولية وهو «بانكور». أما وايت فقد رأى وإنتهى الأمر بإعتماد آرائه، أن يكون للمؤسسة الجديدة رأس مال يقدمه الأعضاء ويتكون من عمله الدولة العضو فضلاً عن جزء من الذهب، وبذلك يتوافر للصندوق موارد من عملات الدول فضلاً عن الذهب. ولكن الأهم عند وايت هو ضمان استقرار أسعار الصرف. ولذلك إقترح الأخذ بنظام أسعار الصرف الثابت وحيث تربط فيه كل عملة بوزن من الذهب، ولا يجوز تغييرها إلا بإجراءات معقدة. ونظراً، لأن معظم الدول كانت قد تخلت عن قاعدة الذهب، باستثناء الولاياتالمتحدةالأمريكية، التى كانت تربط الدولار بالذهب، وكانت على استعداد لتحويله لغير المقيمين بسعر ثابت (35 دولار للأوقية ذهب). فقد انتهى الأمر عملياً إلى أن ربطت معظم الدول الأعضاء فى الصندوق عملتها بالدولار بإعتبار أن الدولار قابل للتحويل إلى ذهب. وبذلك وضعت البذرة الأولى لسيطرة الدولار على أسواق الصرف. فجمع العملات تعرف بوزن معين للذهب وبسعر محدد للدولار. وصاحب هذا الوضع القانونى والنفسى، وضع اقتصادى قائم، وهو أن معظم دول العالم خرجت من الحرب وهى محطمة أو منقسمة سياسياً. وكان الاقتصاد السليم الوحيد هو الاقتصاد الأمريكى، والذى كان يمثل حجم إنتاجه نصف حجم الإنتاج العالمى فى مجموعه، وكانت الولاياتالمتحدة هى الدولة الوحيدة القادرة على تصدير السلع الزراعية والغذائية فضلاً عن المنتجات الصناعية ورءوس الأموال. ولذلك فقد كان إعتبار الدولار هو العملة الدولية أمراً طبيعياً، فالجميع فى حاجة إلى الدولار، إن لم يكن للإستيراد من الولاياتالمتحدة، فهو دائماً مطلوب من كل الدول الأخرى. وكانت المشكلة الوحيدة هى نقص الدولار المتاح للعالم. وكانت الولاياتالمتحدة فى ذلك الوقت تحقق أيضاً فائضاً فى ميزانها الجارى، فهى تصدر بأكثر مما تستورد. فبشكل ما كانت الولاياتالمتحدة دائنة للعالم، فكيف يمكن توفير دولارات للعالم لكى يستطيع أن يدفع ثمن وإرداته منها؟ كان المخرج الوحيد هو أن تقوم الولايات بإستثمارات كبيرة فى دول العالم وبذلك يخرج منها دولارات كافية لبقية الدول لدفع فاتورة وارداتها منها. ومن هنا عرفت الاستثمارات الأمريكية فى الخارج توسعاً كبيراً فى الفترة التالية لانتهاء الحرب، ولذلك لتمكين هذه الدول من الحصول على الدولارات اللازمة لها. وبعد ما يزيد على عقدين من نهاية الحرب، بدأت الولاياتالمتحدةالأمريكية تعرف ظاهرة جديدة وهى بداية العجز فى ميزانها الجارى فضلاً عن عجز الموازنة وصادف ذلك حروبها فى جنوب شرق آسيا وفيتنام. مما أدى إلى بداية توافر الدولار بشكل أكبر لدى معظم الدول، التى رأت فى هذا دعماً لاستقرار أسعار صرف عملاتها. ورغم ظهور العجز فى تجارة أمريكا، فقد كان ذلك محل ترحيب لدى معظم الدول، لأن معنى العجز هو أن الولاياتالمتحدة تضخ كميات أكبر من الدولارات فى العالم الخارجى. ولكن هذا الفائض الذى تحقق لدول العالم لم يستخدم للاستيراد، وإنما للإحتفاظ به كاحتياطى نقدى. وبدأت معظم الدول فى تكوين احتياطيات من الذهب والدولار، مما يعزز من جدارتها الإئتمانية. وعندما قامت ثورة النفط برفع أسعاره فى بداية السبعينيات، صادف ذلك ظهور النمور الآسيوية والتى توسعت أيضاً فى صادراتها بشكل كبير. وهكذا ظهر على الساحة، نوع جديد من الدول التى تحقق فوائض مالية كبيرة ومستمرة، وكان عليها أن تبحث عن أماكن آمنة لتوظيف فوائضها المالية فيها. ولم تجد هذه الدول أفضل من الدولار والأسواق المالية الأمريكية لتوظيف فوائضها فيها. فالدولار هو العملة الدولية المقبولة فى جميع الدول، وهى الدولة الأغنى والأقوى، وهى تتمتع بمؤسسات مالية قوية، وهى دولة قانون وتعرف درجة عالية من الشفافية. وبعد ذلك بعقد أو عقدين ظهر المارد الصين، والذى يحقق فائضاً مالياً هائلاً فى ميزانه الجارى وعليه أن يوظفها فى أماكن آمنة، ولم يجد هو أيضاً ما هو أكثر أمناً من الدولار والأسواق المالية الأمريكية. وبعد أن اختفى الاتحاد السوفيتى، وبدأت روسيا فى تحقيق فوائض مالية نتيجة تصدير الغاز والبترول، فإنها بدورها لم تجد بديلاً عن الأسواق المالية الأمريكية. ومع توافر هذه الأموال التى تبحث عن الدولار والأصول الأمريكية، بدأ عجز الميزان الجارى والذى بدأ فى بداية السبعينات يجد مبرراً، وهو كثرة الأموال الوافدة للإستثمار فى الأسواق الأمريكية. فالإقتصاد الأمريكى أصبح حينذاك قادراً على زيادة الإستيراد وتضخم العجز الجارى، وهو لا يضطر للسداد لأن أصحاب هذه الفوائض حريصون على إبقاء إستثماراتهم بالدولار. ومن هنا لم تجد السياسة الإقتصادية الأمريكية مبرراً لضغط تزايد الواردات وتفاقم عجز الميزان الجارى، فالأموال الأجنبية تتدفق وهى سعيدة ببقائها فى شكل أصول مالية أمريكية. وهكذا بدأ يتراكم حجم الأموال بالدولارات والمملوكة للعالم الخارجى. والآن، فإنه مع إستمرار العجز الجارى لأمريكا لما يقرب من خمسة عقود، فهناك محل للتساؤل، هل يواجه الإقتصاد الأمريكى مشكلة حقيقية، مع تزايد مديونية وتراكمها تجاه العالم الخارجى؟ هناك عبارة شهيرة منسوبة للاقتصادى الإنجليزى كينز، ومفادها على ما أذكر ” أنت فى مشكلة إذا كنت مديناً للبنك بمائة جنيه، ولكن البنك سيكون هو فى مشكلة إذا كنت مديناً له بمليون جنيه.” ولكن ما هى الموعظة من هذه المقولة؟ الفكرة بسيطة وهى أن المدين يكون، عادة، تحت رحمة الدائن إذا كان الدين صغيراً، أما إذا كان الدين كبيراً، فإن الدائن يصبح هو، وليس المدين، فى وضع صعب وتحت رحمة المدين، فالمدين يرهن الدائن وربما يفرض عليه شروطه. والآن، عندما نتحدث عن العالم المعاصر، والأكثر منه حيوية. فما هو شكله؟ يمكن تقسيم العالم المعاصر إلى ثلاثة عناصر من التجمعات الرئيسية الأكثر فاعلية فى الإقتصاد العالمى. هناك الدول الصناعية التقليدية المتقدمة، وهناك الدول الناشئة أو الصناعية الجديدة مثل دول جنوب شرق آسيا والصين والهند وربما البرازيل. وبشكل عام، فإن معظم الدول النامية، خارج المجموعتين المتقدمتين، لا تلعب دوراً مؤثراً فى الأوضاع الإقتصادية العالمية، وخاصة حين يتعلق الأمر بالتدفقات المالية الكبرى. ففيما يتعلق بانتقالات رؤوس الأموال، فإن الدائنين الرئيسيين، على الأقل خلال العقود الثلاثة الأخيرة، هما مجموعة الدول الصناعية المتقدمة من ناحية، ومجموعة الدول الصناعية الجديدة ويضاف إليهم الدول المصدرة للنفط من ناحية أخرى. أما الدول المستوردة لهذه الفوائض المالية فهم عادة الدول الصناعية المتقدمة وخاصة الولاياتالمتحدة، التى تستحوذ على أكبر قدر من استيراد الأموال. وعلى العكس، فإن الدول الصناعية الجديدة وعلى رأسها الصين هى التى تقدم أكبر قدر من الأموال لسد عجز موازين الدول الصناعية القديمة. ففى خلال الفترة 2000-2012 بلغ حجم إنتقالات رؤوس الأموال حوالى 13.5 تريليون دولار، حصلت منها الولاياتالمتحدة على ما يزيد نصفها، أى أكثر من 7 تريليون دولار. والمدين الرئيسى فى الاقتصاد الأمريكى هو الحكومة، وحيث يبلغ حجم الدين الحكومى الأمريكى أكثر من 6.5 تريليون دولار، حوالى ثلاثة أرباعها فى أيدى دائنين أجانب على رأسهم الصين ودول الفوائض النفطية. وقد عرفت الولاياتالمتحدة خلال هذه الفترتين، أزمتين ماليتين هما : أزمة الأوراق المالية للتكنولوجيا (نازداك) فى 2000، ثم أزمة أسواق العقارات فى 2008. وقد لجأت الحكومة الأمريكية، آنذاك باتخاذ سياسات توسيعية، إعتمدت على توسع الحكومة فى الإنفاق وزيادة عجز الموازنة، وخفضت أسعار الفائدة إلى ما يقرب الصفر. ولم يمنع هذا الإنخفاض فى أسعار الفائدة، أو إضطراب الأوضاع المالية للولايات المتحدة، المستثمرون فى دول الفائض (فى الصين وبوجه خاص) من زيادة توظيفاتهم المالية فى الولاياتالمتحدة. وهكذا نجحت الولاياتالمتحدة بعد أن ضمنت قيام الدولار بدور النقود الدولية فى أن تضع دول الفائض فى وضع المسئول عن حماية قيمة توظيفاتهم الدولارية. فدول الفائض بإعتبارها الحائزة على ثروات هائلة بالدولار، أصبح عليها ضرورة حماية هذا الدولار حماية لثرواتها المتراكمة فى الأسواق الأمريكية عبر السنوات. وفى نفس الوقت، أصبحت الولاياتالمتحدة، فى وضع يمكنها من زيادة الإنفاق دون أن يتحمل المواطن الأمريكى عبء هذه الزيادة التى يتكفل بها دول الفوائض المالية. وأصبح أهم صادرات الولاياتالمتحدةالأمريكية، هو تصدير الدولار فى شكل أوراق مالية يقبل عليها المستثمرون من دول الفائض لحماية استقرار البورصات العالمية، وبالتالى ثرواتهم المتراكمة. وعندما تصدر الولاياتالمتحدة الدولار، فإنها لا تتحمل أى تكلفة، وهذا ما يعرف فى الإقتصاد “بحقوق الإقطاعى”. فالدولار أصبح مصدر ريع للاقتصاد الأمريكى. فالولاياتالمتحدة، من الناحية الواقعية، هى البنك المركزى العالمى للنقود الدولية. وبهذه الميزة، أن أصبح الإقتصاد الأمريكى هو وحده دون أى اقتصاد فى العالم قادراً على زيادة الإستهلاك والإستثمار معاً. فأى اقتصاد آخر، عليه المواءمة بين زيادة الإستهلاك أو زيادة الإستثمار. أما الاقتصاد الأمريكى، فإنه قادر على زيادة الإستهلاك بلا خشية من نقص المدخرات اللازمة للإستثمار. والسبب فى ذلك، هو أن دول الفائض المالى فى العالم مستعدة دائماً للتوظيف فى الأوراق المالية الأمريكية، وبما يسمح بزيادة الإستثمارات الأمريكية رغم إنخفاض معدلات الإدخارات المحلية والتى تعوضها المدخرات الأجنبية. ولم يكن غريباً ان ينخفض معدل الإدخار الفردى الأمريكى إلى أدنى مستوى دون نقص فى معدلات الإستثمار. حيث تقوم دول الفائض المالى فى الصين والدول الصناعية الناشئة ودول النفط بالقيام بتوفير هذه المدخرات للاقتصاد الأمريكى. فحماية الدولار لم يعد مشكلة للولايات المتحدةالامريكية وحدها، بل هى أيضاً مشكلة العالم فى مجموعه وخاصة دول الفوائض المالية. وهكذا، فالدولار هو أقوى سلاح فى يد الولاياتالمتحدة، وتكلفة إستخدامه لا يتحملها المواطن الأمريكى وإنما العالم فى مجموعه، وخاصة دول الفوائض المالية. ولم يكن غريباً أن تحارب الولاياتالمتحدة كل محاولة لإيجاد نظام نقدى جديد، كما حدث مع “حقوق السحب الخاصة”. فالدولار هو أقوى سلاح فى ترسانة الولاياتالمتحدة. والله أعلم. لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي