تدور فى هذه الايام مناقشات وتعليقات حول المسلسل التليفزيونى (صديق العمر)، ولغط كثير يخرج عن المفاهيم النقدية السليمة. إن ما يكتبه بعض دكاترة السياسة لا ينم عن فهم أو معرفة حقيقية بأصول الفن وأصول علم التاريخ، وللأسف فقد أدركت من كتابات هؤلاء الدكاترة أنهم يفتقرون إلى دراسة الأدب والفن رغم مدى حاجتهم إلى ذلك، لأسباب كثيرة، قد نذكرها فى مقال آخر، وكم عجبت لتقاعس كبار النقاد عندنا فلم يقتحموا هذا اللجاج، ومحاولة تصحيح المفاهيم الخاطئة التى يتشدق بها أرباب السياسة. وعندما نتحدث عن مسلسل (صديق العمر) فإن علينا قبل كل شىء أن نسأل أنفسنا عما إذا كان هذا المسلسل عملا فنيا، أى يجب أن نطبق عليه المقاييس الفنية التى يتوجبها النقد الموضوعى، أم أن المسلسل هو عمل تاريخى وثائقى نفتش فيه عن الأخطاء والمغالطات التى يحرص المؤرخ الأمين على تجنبها، بل يجب أن يدقق فى صحة الوثائق التاريخية عندما يتناول عهدا من العهود أو يدور حديثه عن شخصية ملك أو ملكة أو حاكم أو زعيم؟! ولست أظن أن كلا من كاتب السيناريو ومخرج مسلسل (صديق العمر) كان فى خلد أحد منهما تقديم وثيقة تاريخية أو كان فى حسبانهما أن يقوما بتعليم التاريخ، فهما بلا شك كانا يدركان أن هذه المهمة ليست مهمتهما، بل إن مهمتهما الاساسية تقديم عمل فنى. إن المعرفة التى يستقيها المتلقى من أى عمل فنى تختلف عن تلك التى يحصل عليها من قراءة التاريخ، فالمعرفة الإنسانية هى معرفة إنسانية شاملة، وقد تغير من شخصية المتلقى ومشاعره. وتتأرجح شخصية جمال عبدالناصر فى ملامحها وسلوكها وأفكارها وفقا للمعالجة الفنية ونظرة أى مبدع إلى هذه الشخصية، فعلى سبيل المثال نجد أن كاتبا مثل محفوظ عبد الرحمن يقدم الشخصيات التاريخية أقرب إلى الشخصيات الملائكية مهما يكن بها من سلبيات وشرور حتى لا يثير المشكلات مع أهل هذه الشخصيات إن وجدوا، وقد فعل هذا فى مسلسل (أم كلثوم)، وقبل ذلك فى فيلم (ناصر 56)، حيث اختار بذكاء كبير فترة لا يختلف عليها أحد من المصريين بالنسبة لحياة عبد الناصر، وهى الفترة التى قام فيها بتأميم (شركة قناة السويس) وأضفى على شخصية عبد الناصر من خياله المبدع الكثير حتى أصبح عبدالناصر فى الفيلم هو نموذج الحاكم الأمثل الذى لا يفوقه أى حاكم فى أى زمان وأى مكان، وهناك الكاتب يسرى الجندى الذى تتبع فى مسلسله التليفزيونى (ناصر) حياة الزعيم الخالد منذ مولده، وكاد يقول أو يوحى بأن عبد الناصر كان زعيما، وهو فى بطن أمه، وقد مر هذا المسلسل مرور الكرام مشفوعا برضاء من يطلقون على أنفسهم (الناصريين) ومشفوعا بأداء الممثل مجدى كامل، وهو فى رأيى خير من قام بأداء شخصية عبد الناصر. وعبد الناصر وفقا لفن الدراما هو بطل تراجيدى تتجلى فيه كل السمات التراجيدية من الازدهار وارتكاب الخطأ إلى السقوط وإلى النهاية الفاجعة التى تثير الشفقة والخوف. ومثله فى هذا مثل الشيخ حسن البنا فى مسلسل (الجماعة) حيث كان يرجى من هذا المسلسل أن يواجه جماعة الإخوان المسلمين، ولكن عندما شاهدته ناديت بأن تكرم الجماعة كاتبه وحيد حامد أو تمنحه جائزة، ولكن الدولة هى التى قامت بهذه المهمة ومنحته أرفع جوائزها. وحيث إن عبد الناصر بطل تراجيدى، وحيث إن حسن البنا بطل تراجيدى، فإن البطل التراجيدى، كما يقول أرسطو ليس مجرد فرد، وإنما هو إنسان (من نمط معين) تتجسد فيه خصائص مشتركة من أناس آخرين، وعلى ذلك فإن التراجيديا تعبر عن (الكل)، ولذلك نجد فى نظرية الجوهر أن الفن يعلو على ما هو جزئى، ويعنى أرسطو بهذا أن الفن ليس مجرد تقليد لما يحدث، لأن التقليد يختص بما هو خاص، أو أنه يتناول الجزء، فى حين أن المحاكاة الهدف منها هو العام وبث الروح العالمية فى العمل الفنى أى أن العمل الفنى، يتسم بالشمول بينما يهدف التقليد إلى الخاص. الحقيقة الفنية تختلف عن الحقيقة فى الواقع، فهى أشمل وأعم، أو كما يرى أرسطو أنها الحقيقة الكونية العالمية فى الحياة الإنسانية . أنصح بالرجوع إلى كتابى «الدراما والتليفزيون» فى هذا الشأن حيث أقول فيه أيضا «إن التاريخ هو علم يحاول تسجيل ما حدث من وقائع الزمان، ويحاول أن يكون دقيقا فى ذلك باتباعه الأساليب العلمية فى الوصول إلى المعلومة الصحيحة التى لا تحتمل سوى الصدق، شأنه فى ذلك أى علم من العلوم، فى حين أن التاريخ بالنسبة للفنان هو مصدر إلهام أو كمادة يمكن أن تكون خلفية لإبداعه الذى يمكن أن يتجاوز الأحداث التاريخية المحددة إلى رؤية فنية شاملة تتوافق مع كل زمان ومكان». وقد يلجأ الفنان أحيانا إلى التاريخ ليخفى فيه الأفكار التى قد تجد تعنتا وتعسفا أو غضبا من زبانية العهد الذى يعيش فيه، كما فعل فولتير فى رواية (زاديج)، ورواية (كندير). إن حرية الفنان فى تناوله التاريخ قد تجعله لا يلتزم بكل ما هو حقيقى، ولذلك فإنه لا يروى الأحداث التى وقعت، كما يفعل المؤرخ، ولكنه يروى الأحداث التى يمكن أن تقع، ولهذا يرى أرسطو أن الشعر كان أوفر حظا من الفلسفة وأسمى مقاما من التاريخ، لأن الشعر يختلف عن التاريخ فى أنه يقدم الكلى، بينما يقدم لنا التاريخ الجزئى، وعندما يستخدم المبدع الحقيقة الفنية فإنه يستخدمها كمبرر لإضفاء طابع الاحتمال على عمله. ويحاول المبدع أحيانا وفقا لرؤيته أن يهدم معبودا تاريخيا (شخصية زعيم مثلا أو ملك أو ملكة) بإلقاء الضوء على حقيقة جديدة أو معروفة، فإذا به يلقى سخطا عظيما من الذين يمجدون هذه الشخصية أو يجهلون حقيقتها، ولا يريدون أن يقوم أحد بتغيير أفكارهم عنها أو أن يعطى بعدا إنسانيا لها، بحيث تبرز حقيقتها كشخصية آدمية قد تخطئ، وقد تصيب، وأنا أعتقد أن جمال عبد الناصر كان يخطئ كثيرا، ويصيب قليلا، وهذا من أبرز سمات الشخصية التراجيدية، حيث إن المحصلة النهائىة لم تكن فى صالح عبد الناصر، ولكن للأسف كانت فى مصلحة أعداء مصر. والفرق بين المؤرخ والمبدع أيضا أن كل مبدع يستطيع أن يعالج نفس الموضوع الذى استقر المؤرخون على حقائقه، ولكن تأتى الأعمال عن هذا الموضوع مختلفة تماما عن بعضها، ذلك لأن الفن بناء أى معالجة أو تناول، وليس مجرد فكرة أو موضوع، فقد جرى تناول شخصية نابليون مثلا فى عشرات من الروايات والمسرحيات والافلام السينمائية، ولكن فى كل مرة كان يأتينا نابليون مختلفا، ولم يعترض على ذلك أى مؤرخ من المؤرخين، لأن لديهم نابليون الحقيقى أى نابليون وفقا للحقيقة التاريخية الخاصة الذى يختلف عن نابليون فى الحقيقة الفنية العامة، ونحن لا يعنينا دائما بالنسبة للأعمال الفنية التاريخية إذا كانت حقيقة أم من نسج الخيال، فالذى يعنينا دائما هل شخصيات العمل شخصيات إنسانية قابلة للتصديق أم أنها شخصيات مستحيلة الوقوع؟! فكما يقول أرسطو «إن الفن يعالج المستحيل الممكن وليس الممكن المستحيل». عندما نريد أن نعرف التفاصيل التاريخية الدقيقة عن أى شخصية لا نلجأ إلى شكسبير أو درادين أو كورنى أو راسين أوتولستوى أو اناتول فرانس أو شيلر أو أحمد شوقى، وإنما نلجأ إلى صولون وبلوتارك وجيبون وتوينبى وهربرت فيشر واميل لودفيج أو الطبرى وابن سعد والنويرى وابن الاثير وابن إياس ومحمد صبرى السوربونى وفؤاد شكرى وعبد العظيم رمضان ويونان لبيب رزق وغير هؤلاء من المؤرخين. إن قيمة العمل الفنى ليس فيما يقدمه من حقائق تاريخية، فهذا لا يلفت النظر للقارئ أو المشاهد الذى يشاهد أعمالا سينمائية أو تليفزيونية، فلا أحد قد يهتم كثيرا بالعصر الذى دارت فيه أحداث مسرحية (هاملت) وما إذا كانت الأحداث حقيقية من الناحية التاريخية أم أنها غير صحيحة، إنما يكون الاهتمام بالنواحى الفنية فى العمل، وهل هذا يؤدى إلى إثارة عواطف معينة تختلف عما يحدث التاريخ من تأثيرة، فليس الغرض هو المعرفة الجزئية، ولكن الغرض أكبر من ذلك، وهو الوصول إلى الحقيقة الشاملة، وللأسف لم أجد هذا فى كل ما كتبه الذين تناولوا مسلسل (صديق العمر) بالنقد، وإنما وجدت كاتبا يبدأ بالانتقاد للمسلسل بشكل تعسفى ثم تبعه آخرون وفقا لسياسة القطيع، وقد شجع هذا اللغو سكرتيرا كان يعمل مع عبد الناصر أن يدقق من ناحية قربه من الزعيم فى بعض تفاصيل حياته حتى كاد يصل به الأمر إلى ما كان يأكله عبد الناصر، وما كان يرتديه من ثياب، وما كان ينطق به فى جلساته من أقوال بشكل يثير الضحك عند الذين يدركون الفرق بين الفن والتاريخ. لمزيد من مقالات مصطفى محرم