من بين أجيال المفكرين المصريين الذين رحلوا إلى الغرب وأقاموا ودرسوا فيه وتأثروا بحضارته وقيمه ودعوا بدرجة أو بأخرى للأخذ بمقومات هذه الحضارة ونظمها ومناهجها، كان سلامة موسي ( 1887 – 1958)، من أكثر هؤلاء وأشدهم انبهارا بالنموذج الغربي في كل صوره وقيمه ونماذج الحياة والسلوك فيه، وحيث كان يراه تجسيدا للعلم والصناعة والديمقراطية والحكم البرلماني والمساواة بين الجنسين واستقلال الشخصية والنظرة الموضوعية، كما كان أشدهم مقتا لمظاهر التخلف في الحياة والمجتمع المصري ورفضا للقيم وقواعد السلوك التي يستند إليها والتي رآها في قيم الانتاج الزراعي الراكد، وسيادة الغيبيات ، وهوان المرأة ، وغياب الحريات والانغلاق علي الذات ، ودعوته الي نبذ هذه القيم والتخلص منها . وكان ذهاب سلامة موسي الي هذا الحد هو الذي عرضه لهجوم عنيف ممن رأوا في مشروعه الثقافي «عمالة » للحضارة الغربية ودعوة الي الغاء الذات الحضارية واستبدالها بالأخر الحضاري الاوروبي والواقع انه اذا كان معظم المفكرين المصريين الذين عايشوا الحضارة الغربية وقدروا مظاهر وعوامل التقدم فيها قد دعوا في نفس الوقت الي مزج هذه المقومات بالقيم والاساليب الايجابية في الثقافة وتقاليدها ما يستحق المحافظة او الابقاء عليها . فمنذ ان بدأ سلامة موسي في رسم خريطة حياته وحين جعله وسطه الاجتماعي « يبيت ويصبح في كرب لا يطاق » وحين وجد نفسه في مصر يعيش حياة ذهنية صحراوية تفتقر الي التفكير الخصب ،قرر وهو في التاسعة عشرة من عمره « ان اترك مصر وارحل الي اوروبا كي ابحث عن الحياة واري نفسي واولد من جديد «ويسجل سلامة موسي خبراته وحياته الثقافية والعقلية في مصر قبل ان يغادرها عام 1908 ويهبط في باريس كنت في مصر قبل عام 1908 اعرف الحجاب واعيش شعائره ، وكنت اجد الفصل بين الجنسين شيئا مألوفا ، والنساء مخدرات كاملات ، ويقابل سلامة موسي بين هذا الجو الثقافي والاجتماعي الذي عاشه في مصر وبين ما وجده في فرنسا « فلما وجدت المجتمع الفرنسي واصطدمت به ، ورأيت المرأة الفرنسية علي حريتها وصراحتها وطلاقتها ، شعرت ان افقا جديدا يتفتح امامي « . ويفصل سلامة وموسي تجربيه مع المجتمع الفرنسي بقوله « وهناك انبسطت لي آفاق وحلمت احلاما ورأيت رؤي .. رأيت شعوبا حرة فيها الكلمة العليا التي تتضح في الانتخابات البرلمانية .. رأيت البيت النظيف ، والشارع النظيف والكتب العديدة والمكتبات المجانية وعرفت فوق ما عرفت المرأة التي يمكن ان تكون انسانا حرا ..رأيت جمالا في الحب بين الشبان والفتيات ، ورأيت التمدين «وهكذا كان فضل فرنسا عليه ان جعلته اوروبي التفكير والنزعة ،» لقد فتحت لي فرنسا الآفاق الاوروبية التي لا تزال تنشط حياتي بعكس حياتي قبل سفري «. وكلما توغل سلامة موسي في الحضارة الغربية وعايش نظمها وعاداتها وقيم مجتمعاتها ،تعمق انبهاره وازداد اقتناعا بأن « الحضارة الاوروبية تتغلب وتسود اينما وجدت في العالم ولا يمكن لامة ان تحيا اذا خالفتها ، ونعني بالحياة هنا حياة القوة والعلم والثراء «. وفي الوقت الذي ازداد بعدا بل ومقتا للمجتمع الشرقي وتقاليده وقيمة وسلوكياته ، لذلك جعل من اهداف كفاحه الرئيسية الكفاح ضد « هذا الشرق المتعفن ، وهذا الهوان الذي يعيش فيه ابناء وطني :وهو ان الجهل وهوان الفقر «، ومثلما كان عدوا لاستعمار الانجليز لبلاده الا انه ايضا عدو « للآلاف من ابناء وطني هؤلاء الرجعين الذين يعارضون العلم والحضارة العصرية وحرية المرأة ويؤمنون بالغيبيات « وبعد رحلة قام بها من لندن الي طنجة يتأكد معني افتراقه عن الشرق وطراز ثقافته « هناك قضيت نحو عشرين يوما كان اعظم وقعها علي نفسي ان اقتنعت بأن الشرق مفلس وان طراز الثقافة الذي يعيش فيه ويسترشد بقواعده يجب ان يتغير «كما كان لهذه الزيارة اثرها الحاسم فيما يتعلق بولائه العقلي نحو الغرب « وعدت الي لندن منتعشا معافا ، وقد فطمتني هذه الزيارة للغرب من أي اثر للولاء للشرق « اما تصوره لمصر والنموذج الذي يريدها عليه وما يعمل كي يحققه لها فهو «احالة مصر من قطر شرقي ضعيف يعيش علي التقاليد واساليب الزراعة ، الي قطر اوروبي يعيش علي العالم والصناعة واستقلال الشخصية (10) . وهكذا يحل سلامة وموسي من وجهة نظره موقف الحيرة والتردد الذي تقفه مصر منذ قرابة قرن ونصف ومنذ ان واجهت الحضارة الغربية بشكل مباشر وعاصف حول ما اذا كانت تظل مرتبطة بأصولها الشرقية وتسير علي ما يسير عليه الشرق في نظمه وقيمه وسلوكياته « ام تنضم الي اوروبا قلبا وقالبا فتعتاد عادات الاوروبيين وتلبس لباسهم ،وتأكل طعامهم وتصطنع اساليبهم في الحكومة والعائلة والاجتماع والصناعة والزراعة ». ويرجع سلامة موسي هذه الحيرة « منذ ان شرع نابليون يغرس فينا الحضارة الاوروبية ويزيل عنا كابوس الشرق «، وقد تابع محمد علي هذه المسيرة حين اعتمد علي فرنسا في تمدين البلاد .. حيث كان يؤمن بالحضارة الغربية فأسس المصانع علي النمط الاوروبي .. اما اسماعيل فقد كان حاسما في اخياره بين الشرق والغرب حين رأي بنافذ بصيرته انه لابد لنا ان نتفرغ ونقطع الصلة بيننا وبين آسيا ..»وينكر سلامه موسي اننا شرقيون حيث يعتبر ان مصر قد عاشت نحو الف سنه وهي جزء من الدولة الرومانية بل انه يذهب الي اعتبار من يدعون الي رابطة شرقية بانها « سخافة « .اما الرابطة الحقيقية عنده التي لا تتزعزع وتقوم علي قاعدة راسخة فهي رابطة الحضارة والثقافة ،الرابطة الاوروبية التي اخذنا عنها حضارتنا الراهنة ومنها تثقفنا الجديدة فالرابطة الغربية هي الرابطة الطبيعية لنا لأننا في حاجة الي ان نزيد من ثقافتنا وحضارتنا وهما لن يزيدا من ارتباطنا بالشرق بل من ارتباطنا بالغرب «. ويعتبر سلامه موسي ان مصر قد قطعت بالفعل شوطا بعيدا في الارتباط بأوروبا والاقتباس من حضارتها سواء في مؤسسات السياسية او القانونية او التعليمية وينتهي الي ان حضارتنا هي حضارة اوروبا ،والقول بالسير فيها الي غايتها ليس سوي القول بالتطور والانتقال من الحال الدنيا التي نحن فيها الي حال عليا «. والواقع انه اذا كان عدد من المفكرين المصريين ابتداء من رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده بل ومعاصرين له مثل قاسم امين ومحمد حسين هيكل، وطه حسين ، وتوفيق الحكيم قد اتصلوا بالثقافة الغربية وعايشوها بنفس القدر والعمق الذي اتصل بها سلامة موسي ، الا ان ميراثهم من الثقافة المصرية والعربية والاسلامية قد وازن وقع الثقافة الغربية عليهم وساعد احتفاظهم بهذا الموروث الثقافي علي الا تكتسحهم الثقافة الغربية بالشكل الذي حدث مع سلامة موسي ، فالكتب العربية والثقافة العربية بالنسبة له لم تكن ترتفع الي مقام يتيح لها تخريج الرجل الناضج الذي يتساءل ويستطلع .. ، اما من « علموه « وكانوا بالنسبة له « الكتاب الايحائيين « او الذين اعطوه المعارف الخصبة « والافكار الحوامل « فقد كانوا جميعا اوروبيين : فولتير محطم الخرافات ، وجيته وشخصيته العالمية ، ودارون الذي كتب « اصل الانواع « عام 1858 فغير الرؤية والرؤيا البشريتين ، وهنريك ابسن الذي دعا المرأة الاوروبية الي ان تستقل وتنشد الآفاق وتجرب وتختبر الدنيا ، وفردريك نيتشه الذي وان كان قد تخلص منه بعد ان فتنه وهو شاب الا انه مازال يحمل له الحب ، ودوستوفيسكي الذي جعله يضع الادباء الروس في مرتبة اعلي من اي ادب اخر ، وهنري ثورو الذي عمق فيه الاحساس بالطبيعة والعيش فيها ، وتولوستوي فيلسوف الشعب الذي يكتب للشعب وللرجل العادي ، وفرويد الذي شرح النفس البشرية ثم برناردشو الذي سيقول عنه « لقد امضيت من حياتي اربعين سنة وانا اتعلم علي يدي هذا الحكيم الذي اعتبر حياته نورا ونارا لجميع الذي يعرفونه ، ولا اظن انه فاتني شيء مما كتب ، وكتاباته هي الان هرمونات ذهنية توقظني وتحركني ». وكمقدمة لتأثير الفكر الغربي عليه نجد انه حتي الكتاب العرب الذين تأثر بهم وقرأ لهم قبل سفره لأوروبا كانوا هم فرح انطون ويعقوب صروف ومن خلال مجلاتهم « المقتطف » ، و « الجامعة » .فعبر المقتطف عرفه يعقوب صروف لأول مرة بنظرية دارون في التطور وهي النظرية التي سوف تمتلك فكر سلامة موسي وتصبح محور حياته العقلية، «وكان كتاب « اصل الانواع »، من الف كتاب قرأها ، الكتاب الاول الذي له فضل الصياغة والتفكير لشخصي «، اما فرح انطون فقد عرفه بالأدب والادباء والمفكرين الاوروبيين الذين سيصبحون بوصلة اتجاهاته الفكرية فولتير ، وروسو وديدرو ، وهو الاتجاه الذي سيتعمق بسفره الي الخارج عام 1907 متوجها اولا الي فرنسا وهو العام الذي جعله فيما يعبر « اوروبي التفكير والنزعة « لذلك ليس غربيا ان نجد بعض شراح سلامة موسي يعتبرون انه قد استبدل دنيا بدين ،فيحث اعتبر الرابطة الدينية «وقاحة « ، امن بأوروبا وجعلها دينه الذي لا يساوم عليه ولا يقبل بديلا له وبصورة جعلته يتقبل كل ما تأتي به اوروبا ولا يري سوءاتها ، ويتقبل كل ما يصدر عنها وكل قيمها واساليب حياتها دون اعتراف او تساؤل ، وقد ذهب في هذا الي الحد الذي قدم فيه تبريرا للاستعمار والسيطرة الغربية وجعله يتمني حين يتأمل استبداد التقاليد ببعض الاممالشرقية « احس وكأني ارغب في استعمار اجنبي يصفعها الصفعة المعينة «. واذا كنا قد قارنا مدي تأثر سلامة موسي بالغرب وحضارته بتأثر غيره من مفكرين مصريين ، فسوف نجد في مفكرا مصريا يقترب من سلامة موسي في مدي ايمانه بالحضارة الغربية وقيمها ودعوته الي تبنيها بشكل مطلق ونعني به الدكتور حسين فوزي ، ولعل هذا التشابه هو الذي جعل حسين فوزي يعلي من قدر سلامة موسي وما قدمه للعلم والفكر والثقافة ومن ثم الي وطنه . واتصالا بدور سلامة موسي ودعواته يتساءل فتحي رضوان عن مكان سلامة موسي في الادب المصري والحركة الفكرية العربية وينتهي الي ان سلامة موسي قد تميز عن غيره من الكتاب والمفكرين المصريين ، فحيث كان هؤلاء وسائط لنقل الثقافة الغربية لبلدنا بما نقلوه وترجموه وعلقوا عليه من كتب من الثقافة الغربية الا ان ما نقلوه وترجموه لم يكن له اثر فيما انتخبوه ، اما سلامة موسي فقد تميز عن غيره لأنه لم يكتب الا عن مفكرين امن بمن يدعون له من فكر ومن راي وظل متمسكا بالدعوة لهم الامر الذي يضعه في مصاف الدعاة لا الكتاب. كذلك سنلاحظ ان بعض من ارخوا لحياة وفكر سلامة موسي قد دافعوا عن اختياراته الذهنية وفسروها بشكل ينفي عنه الصورة المطلقة التي ارتبطت به وهي دعوته للتغريب وتقديسه للغرب وانكاره للماضي ومقته للشرق ، فعند هؤلاء ان نظرة سلامة موسي للماضي كانت انتقائية نقبل منها ما هو ايجابي بدليل انه تحمس لأخذ الاوروبيين في اوائل نهضتهم عن الاغريق والرومان ، اما ما يرفضه في الماضي فهو الظلامية والجهل وكل ما يتعارض مع المنطق والعقل. ويحلل هذا التيار من التفسير وصف سلامه موسي بانه داعية للغرب في ضوء تصوره للحضارات الكبرى في العالم حيث اعتبر انها حضارات انسانية وانها تحمل اسهامات العقل الانساني ، ولذلك فهو يري ان الحضارة المعاصرة ليست الا نتيجة ما وصل اليه العقل الانساني من تجارب وخبرات ، وبهذا المعني لا يصبح التوجه للغرب تبعية حيث سيصبح الاخذ هو استعادة لما شاركت فيه شعوب من الصين والهند ومصر والعرب .وللتدليل علي ان منهج سلامة موسي لم يكن مقبولا للغرب علي اطلاقة ، يعتبر هذا الاتجاه في قراءة سلامة موسي انه في الوقت الذي اعتبر فيه ان حضارة الغرب هي حضارة العلم والاختراع والديموقراطية ،فقد وصفها كذلك بانها حضارة القلق والتوتر والامراض النفسية التي لا تحصي ، كما رفض الغرب الاستعماري ، وانتقد العديد من مفكري الغرب وفلاسفته في نظرياتهم مثل برجسون ونظريته في التطور ، وجون ديوي وشطط دعوته الي الاخلاق العلمية ، ورغم تأثره الشديد ببرناردشو الا انه انتقده في بعض افكاره بل ووصفها بالفاشية – ورغم ايمانه الشديد بنظرية التطور الا انه عاب علي دارون اعطائه اهمية كبري لتنازع البقاء . من هذه القراءة يستخلص هذا الاتجاه المنصف لسلامة موسي بأننا لا يستطيع القول بان سلامة موسي اندفع نحو الغرب اندفاع المنبهر بالحضارة الحديثة ولا هو داعية للتعريض بالشرق فهو لم يرفض من الافكار الا ما راها تتعارض مع العقل ومع منهجه في التطور.