قبل أن يكون رئيسا لمصر برهن السيسى على نضج سياسى واضح .. أحيانا بمواقف، وفى أحيان أخرى بكلمات قصيرة للغاية ولكنها تلخص قناعات وتوجهات بالغة العمق والقوة. المؤامرة على العالم العربى كله كانت محبوكة فى درامية شديدة، وكنا ننظر للوطن وهو يتفكك من حولنا ونحن لا حول لنا ولا قوة، فعقول الذين تقدموا المؤامرة "دون إدراك" كانت غائبة عن الوعى، وعقول من تلقفوا الغنيمة كانت قادرة على تحويل كل صوت ضد هذه الموجة العاتية إلى خائن يستحق العقاب. وفى صحوة حضارة سبعة ألاف عام إنتفض الشعب المصرى ، مارد تحرك، ينقذ الوطن ، يوقف المهزلة، يقول لا بكل قوة ، وفجأة برز من وسط كل هذا الركام قائد إستجاب لصوت الشعب، وحول كل ذلك فى غمضة عين، أنقذ مصر والوطن العربى كله من مصير مجهول، وإن كان معلوما بالنظر إلى ما حدث فى سوريا وليبيا والعراق واليمن. "مسافة السكة" عبارة قالها السيسى وكان يعنيها فى هذا الوقت ويؤيدها ملايين المصريين بأن جنود مصر وشبابها درع وسيف للوطن العربى كله. واليوم تستقبل مصر ملك السعودية وكبار رجالات المملكة فى لفتة قوية للمساندة الكريمة من السعودية لمصر، نعم .. "مسافة السكة" هى إختصار لكل ما يجيش فى قلوب المصريين لحماية الحرمين وأهلهما، وحماية الخليج العربى كله الذى إقتسم مع المصريين الحزن والدمعة واللقمة والبسمة والفرحة. أهلنا هنا، وأهلنا هناك، فالقضية واحدة، والمصير واحد. مؤتمر "المانحين" الذى أرفض تسميته بهذا الاسم، فهو مؤتمر "المحبين" لمصر وأهلها، سيكون نقطة تحول كبرى فى الاقتصاد المصرى، ربما مصر تحتاج إلى دعم فى المرحلة القصيرة على مدى عام واحد، ولكن مصر لديها الكثير ليكون قاعدة انطلاق قوية للمستقبل. نحتاج للمستثمر العربى وليس المانح فقط، ويجب علينا أن نستعد لهذا المؤتمر بالفكر قبل الكلام. آن الأوان لاستثمار الأراضى المصرية الشاسعة التى تمثل 93% من مساحة مصر صحراء جرداء، هذه الصحارى هى أغلى من كنوز العالم، فهى الأرض التى لا تقدر بثمن، فهناك دولا كثيرة لا تملك هذه الميزة، ونحن نملك كل هذه الثروة من الأراضى من ملايين السنين ولا نستغلها، لا تبيعوا الأرض للمستثمر ولكن تدخل الدولة بقيمتها كشريك فى المشروع على شرط أن تكون الإدارة للمستثمر العربى الذى سيجلب الأموال ويحول رمال الصحراء إلى ذهب. هذا الفكر سيمنع الكثير من الشكوك والهواجس حول بيع الأرض بأقل أو بأكثر من قيمتها، وسيحافظ على ثروة الأجيال القادمة، وسيعطى ثقة للمستثمر بأنه يستثمر مع الدولة وفى حمايتها. هذه الفكرة البسيطة ستجلب لنا ترليونات الخليج التى ضاعت أكثر من مرة فى أزمات مالية حقيقية أو مفتعلة فى أسواق مال العالم، حان الوقت لتستقر فى استثمار حقيقى على أرض عربية ستظل مفتوحة لجميع العرب دون استثناء. علينا أن نضع قوانين وتشريعات جديدة حامية للاستثمار، وموثقة بسبل للتقاضى والتحكيم من محاكم مصرية عليا ومن مؤسسات دولية كبيرة وذلك لتأكيد الضمانة للمستثمر العربى والأجنبى بأنه لن يعبث بهذه العقود أى عابث مرة أخرى وتحت أى ظرف وبمقتضى أى قانون. نحتاج أن نفكر فى المستقبل، وهذا لن يكون إلا بتحول حقيقى فى سلوك الشعب المصرى، حان الوقت للعمل الجاد، إحترام العمل أكثر قدسية عند الله ، فالعمل عبادة، واليد العليا خير وأحب عند الله من اليد السفلى، ولن تكون الفكرة من الرأس إلا إذا كانت اللقمة من الفأس مثلما قال شيخنا الجليل الشعراوى رحمه الله. ملايين العاطلين سيجدون العمل إذا أحسنا التفكير، فالسوق المصرية محدودة ولا مفر من توسعتها بأسواق أخرى من خلال التصدير للخارج ، وهذا التصدير يعنى زيادة وجودة فى الإنتاج بالداخل. الاقتصاد كائن حى يعيش على الحركة ويتكاثر بالربح، وهذا يجنى ثماره ملايين من الشباب العاطل. ويجنى ثماره الأبناء فى المستقبل. الاقتصاد يحتاج إلى الأمن، فالسياحة والاستثمار لن ينطلقا بدون أمن، ليس أمنا من حيث الحركة والعمل فقط، ولكن أمنا ضد التشريعات المجحفة ، وضد البيروقراطية، وضد الاستغلال. نحتاج لإعادة بناء الشخصية المصرية، والإعلام الذى هدم كثيرا من القيم عليه الأن البدء بإعادة بناء ما تهدم، الرقابة على المصنفات الفنية أصبحت أمن قومى، فالصورة المشوهة عن الواقع المصرى تمنع المستثمر والسائح من القدوم لمصر، أوقفوا الدراما التى لا تحترم التقاليد والدين، هذا ليس تسلطا على الفن ولكنه حماية للفن، فرسالة الفنان أن يغير الواقع السيئ وليس إبراز القبح ليكون هو السلوك الأمثل للشباب والأطفال يقلدونه تقليدا أعمى بعد أن افتقدوا القدوة . إعلام الصياح والخناق لم يعد إعلاما ولكنه "دعوة للعراك"، نحتاج إلى قادة فكر يغيرون الناس للأفضل، ينقلون الحقيقة دون تشويه أو إنحياز، يدعون للبناء وليس الهدم. الحكومة الجديدة أمامها شوطا طويلا من العمل الجاد ، وعلينا أن نساند كإعلام كل هذه الجهود ، وأن نكون جميعا على قلب رجل واحد لاستعادة حضارة هذا الشعب، فإعادة البناء الاقتصادى لا تشمل فقط لقمة العيش والسكن والمواصلات، ولكنها أيضا الثقافة والفن والتعليم والعلاج. الاهتمام بثقافة الإنسان المصرى لا تقل أهمية عن الاهتمام بلقمة العيش، فعن طريق الفن والأدب ترتقى المشاعر ، وينمو حب الأوطان، وتتحول القلوب إلى واحة خضراء وليس خرابات تجول فيها الأفاعى السامة. العلاقة بين مصر والأشقاء العرب لابد وأن تأخذ منحى جديدا، تبدأ بأن تكون هناك معاملة تفضيلية للإستثمارات العربية الوافدة، وتبدأ بأن تكون للعمالة المصرية بدول الخليج العربى الأولوية خاصة فى حال تساوى الكفاءات مع العمالة الوافدة من دول أخرى، وتبدأ بالمشروعات التى تحقق وفورات بديلة للواردات العربية من الخارج، واستثمارات عربية مصرية بالشراكة مع مؤسسات وشركات عالمية لتصدير إنتاج فاخر بتكلفة أقل. مصر بمواردها المتنوعة يمكن أن تكون السوق البديلة لتوسع الاستثمارات العربية فى مختلف المجالات زراعيا وصناعيا وخدميا، فلدينا قطاع عريض فى صناعة الخدمات من سياحة وفندقة وطيران وملاحة بحرية ونهرية وموانئ ونقل، كل هذا يمثل سوقا للاستثمار العربى والخليجى، فبدلا من التصنيع فى الهند أو الصين .. مصر أكثر قربا ، وربحية. لتكن المرحلة الجديدة بداية لكل الأطراف فى إكتشاف القوى الكامنة لدى الأطراف الأخرى، وتعزيز الإستفادة من المزايا النسبية، وتحقيق التكامل الاقتصادى الحقيقى، وبهذا فقط يمكن أن نحقق الوفورات الإقتصادية، وأن تكون للمنطقة العربية أهمية على المستوى العالمى ككتلة إقتصادية قادرة على تحقيق الإكتفاء الذاتى، وقادرة أيضا على التجارة والاستثمار مع العالم. مصر فى إنتظار أشقائها العرب ، وأرض مصر تتسع للجميع بالمحبة والمودة و.. المسألة بيننا .. مسافة السكة.