عندما تصل إليها تشعر انه ليس هناك ما يفصل بينها وبين زمن الفراعنة...فنبات البردى القديم والايقاع الهادئ جدا للحياة والجو الاسطورى للحظات الغروب تجعلك تؤمن بألا شئ قد تغير منذ مئات السنين. الفيوم ... بلد النبى يوسف التى اختطها بنفسه وبوحى إلهى لتكون سلة القمح المصرية، والبلد الذى يعرف الرى الدائم طول العام, فالماء يأتى من بحر يوسف، والتاريخ يقول إنها تحمل اسم «بيوم» وتعنى بركة الماء و«بر سوبك» وتعنى بيت التمساح عند الفراعنة. وأنها كانت خير مثال على العصر الذهبى للفلاح منذ زمن الدولة الوسطى المصرية القديمة. وأنها كما قال أحد المؤرخين كانت تضم ثلاثمائة وستين ضيعة «تمير» أى «تعطى» كل ضيعة منها مصر يوما واحدا .. فكانت «تمير» مصر السنة كلها. وكأنها جبهة إنقاذ لبر مصر. وليست هذه هى السيرة الكاملة للفيوم, وإن كنا نذكرها الأن لمرور مائة عام على وفاة الانبا ابرام أسقف الفيوم والجيزة الذى كان معروفا بالعطاء لدى المسلمين والمسيحيين حتى إن المستشرق الإنجليزى ليدر فى كتابه «أبناء الفراعنة المحدثون» قد أشار إليه وإلى جهوده فى مساعدة أبناء الفيوم. ولاعجب إذن فى أن يتحمس دير العزب للتعاون مع مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية فى إقامة مؤتمر عن الفيوم أيقونة الحضارة المصرية عبر العصور, بالاضافة إلى معرض للكتاب يضم 10 آلاف كتاب ومعرض فني. وفى السطور التالية أقدم لك عزيزى القارئ خلاصة ما قيل فى المؤتمر عن الفيوم وعن دير العزب, الذى كان شاهدا على أيام الانبا إبرام , هو دير قديم يعود للقرن الثالث عشر, وقد ذكره كثير من الرحالة, أمثال النابلسى, فى كتاباتهم. وعاش به رهبان على مساحة 80 فدانا ولكنهم رحلوا عنه لقربه من المدينة وبعدها عادوا من جديد- كما يقول الانبا إبرام الثالث أسقف الفيوم - بفكرة التواصل الاجتماعى مع أهل الفيوم حتى إنه يوجد بالدير مصنع للنسيج والملابس والجبن ومخبز ومدرسة ومركز ثقافى ومتحف وملاعب وقاعة سينما. حكايات وادى الحيتان: والفيوم تاريخها قديم جدا, بشهادة د. خالد سعد المختص بآثار ما قبل التاريخ . فهى المكان الذى اكتشف فيه عرائس البحر ومقابر التماسيح وأودية الحيتان. كما عثر من خلال مسح أثرى دقيق لأكثر من 8 ألاف نقطة فى مساحة عشرة كيلو مترات من شمال بحيرة قارون على أول مأوى للمصرى القديم (فى العصر الحجرى) وبها بقايا حبوب ورءوس سهام لها نمط مميز، بعد إن كشفت الحفائر عن أن هناك أكثر من 13 نمطا لرؤوس السهام، فوجود سهام ذات رأسين كما أشار متخصصون توضح درجة التحضر التى بلغها إنسان الفيوم, حيث إنها أسرع فى قتل الفريسة. كما استخدم سنارة للصيد من الزلط تعود إلى أكثر من 8 آلاف سنة، بالاضافة إلى أنواع من المكاشط تفصل الجلد عن اللحم وسكاكين حادة ومطاحن للغلال، وعقود من قشر بيض النعام وسراديب دفنت فيها الحيوانات المقدسة كالتماسيح. ويضيف د. جبيلى عبد المقصود خبير الحفريات أن هناك أربعة تكوينات, منها تكوين وادى الريان ووادى الحيتان وبركة قارون, لهذا تعد أهم بقعة على وجه الأرض كسجل للحفريات, خاصة أن البحر المتوسط كان يمتد إلى منطقة قنا ثم تراجع حتى الفيوم. فكان الشاطئ القديم للبحر فى منطقة وادى الحيتان جنوب غرب الفيوم التى تعتبر أقدم منطقة تراث طبيعى فى مصر, وقد عثر فيها على 1500 هيكل حوت بلغ طولها من 18- 22 مترا حفظها مناخ الفيوم الجاف منذ أكثر من 45 مليون سنة. كما وجدت هياكل أول اسلاف للأفيال والقردة . ويتحدث أحمد عبد العال مدير عام آثار الفيوم عن حفائر منطقة دير البنات بجنوب غرب الفيوم التى ضمت عملات تعود لعصر الامبراطور الرومانى هرقل وأطباق من العاج ونسيج قبطى والبورتريه الوحيد الذى تحتفظ به الفيوم فى متحف كوم أوشيم, بينما هناك ما يصل إلى ألف من بورتريهات الفيوم فى متاحف العالم. فضائل سلة الغلال: وتوضح د. إيناس نور الدين مدرس التاريخ بأداب المنوفية أن الفيوم كان دورها الاقتصادى كبيرا خلال العصر البيزنطى حيث اعتمدت عليها الامبراطورية الرومانية كسلة للغلال لكل سكان روما, واشتهرت بإنتاج الفاكهة والقطن ,الذى عرفته مصر مبكرا فى الفيوم وفرضت عليه الجمارك، كما تكشف الوثائق، والزيوت والنسيج والورق والحبال. وقد تنوعت ملكية الأرض من أرض مملوكة للدولة وارض مملوكة للأفراد عن طريق الشراء. كما كانت هناك هبات من الأفراد والدولة للمعابد، ومساحة الأرض زادت فى ذلك الوقت إما لانحسار بحيرة قارون وإما نتيجة لعمليات استصلاح الأراضى. أما كتب الفضائل فهى ظاهرة أدبية عرفتها الفيوم فى العصور الاسلامية، وهى- كما تقول د. نيفين عبد الجواد من جامعة الاسكندرية - كتب ممتعة تتناول وصف مصر. وارتبطت بظروف سياسية معينة خلال الخلافة العباسية, حيث ظهرت نزعات أقليمية ورغبة فى الاستقلال, كما حدث فى زمن الطولونيين والأخشيديين. فراحت كل بلد تتحدث عن مميزاتها وعن أحقيتها كمركز حضارى. وتبدأ الكتب بذكر سيرة البلد فى القرآن الكريم والاحاديث النبوية. وقد نالت الفيوم حظها من وصف جمع بين الاسطورة والتاريخ ومعجزة بنائها على يدى النبى يوسف عليه السلام, فكتب عنها ابن عبد الحكم فى كتاب «فتوح مصر واخبارها» وابن الكندى فى «فضائل مصر المحروسة» والمؤرخان ابن زولاق وابن اياس الذى ذكر الفيوم فى ثمانية فصول من كتابه» نزهة الأمم فى العجائب والحكم». وجوه الفيوم: و لا يمكن لمكان له هذا التاريخ الا أن يكون موطنا للكثير من الشخصيات والعائلات المؤثرة فمنهم علماء فى خدمة الأمة كصوفى أبو طالب الذى كان شاهدا على كثير من المتغيرات السياسية فى زمن عبد الناصر والسادات, كما يقول د. صالح محروس، وحمد باشا الباسل عضو الوفد المصرى المشارك فى ثورة 1919 والذى تحدث عن كفاحه الوطنى د. أيمن محمد أحمد بوصفه زعيما للبدو التى تضم الفيوم كثيرا من عائلاتهم - كما يشير عبد العزيز الفضالى -كالفوايد والهوارة والقذاذفة والسويعان والبراعصة والرماح والعبيدات وغيرهم من القبائل التى بدأ ظهورها السياسى منذ زمن محمد على بتحالفه مع بعضهم كالهوارة ضد المماليك، و الفوايد ضد المماليك الفارين إلى السودان. ولا يقتصر تراث الفيوم على هذه الوجوه أو على البورتريهات القديمة, فقد دارت مناقشات حول دور الفيوم فى الصحافة, وعن طرزها المعمارية الاسلامية والمسيحية, ونسيج الفيوم ومستقبل السياحة, وصناعة الفخار التى, كما قال د. حازم عطية الله محافظ الفيوم, تستعد لعودة كبيرة على الخريطة الحضارية لمصر بمهرجان سنوى للفخار كصناعة برعت فيها الفيوم على مر العصور. وهكذا وعلى مدى ثلاثة أيام نرى ملامح بلد وُلدت- كما تقول القصص- فى ألف يوم, ومن فضائلها انها صاحبة أول بورتريهات فى تاريخ الفن وأول الايقونات القبطية وأجمل مساجد المماليك وأشهر القبائل العربية وعين السلين وبحيرة قارون. ولكن المشكلة فى اننا ننسى أو نتناسى كثيرا هذه الخلطة المصرية وهذا التاريخ وهذا الجمال الهادئ دون أن نشجعه بحركة سياحة أو استثمار.. فإلى الفيوم بلد النبى يوسف.