أنفقت سنوات الستينات من القرن الماضى فى إنهاء دراسة المراحل التعليمية قبل الجامعية. وطوال تلك السنوات كان طابور الصباح أحد أبلغ دروس الوطنية والفخر بهذا الوطن الذى انتمى إليه. فى طابور الصباح عرفت النشيد الوطنى والتحية الواجبة لعلم مصر. وفى نهاية المرحلة الثانوية فى سنوات ما بعد نكسة يونيو كان طابور الصباح قد طرأت عليه تغييرات اتسعت شيئا فشيئا حتى أصبح بعد سنوات ذكرى وتاريخا. قبل أن أغادر المرحلة الثانوية إلى الجامعة كان مدير المدرسة قد بدأ خطبه الدينية المطولة فى الصباح. خطب فرضت ظروف الثأر لنكسة يونيو عليها بعضا من الوطنية. وشيئا فشيئا اختفت من خطب مدير المدرسة تلك الإشارات الوطنية وأصبحت وعظا دينيا أقرب إلى دروس المساجد. ولم يكتف الرجل بذلك بل كان يجمع تلاميذ المدرسة قبل (المرواح) ليستكمل خطبه الدينية. هذا الذى عايشته فى المدرسة الثانوية عاشته ولاتزال تعيشه أجيال من تلاميذ المدارس فى طول البلاد وعرضها. تراجعت فى نفوس الأجيال تلك المشاعر التى كان الحماس فى ترديد النشيد الوطنى وتحية العلم يستثيرها فى نفوس الشباب الصغار. تراجعت كل مصادر التنشئة الوطنية بغياب الأغنيات الوطنية واختفاء العلم من المدارس وأعلى مبانى المصالح الحكومية. راحت الكشافة والقسم المخصوص والفتوة من مراحل التعليم وأصبح الاحتفال بالأعياد الوطنية عملا من أعمال التلفزيون. ثم غابت أفلام السينما والمسرحيات التى تعلى من شأن قيم الوطن والمواطنة وظهرت أفلام المقاولات ومسرحيات السياحة العربية الصيفية. ثم بدأت أكبر هجرة فى تاريخ المصريين بحثا عن الرزق ومكثوا خارج بلادهم سنوات أضعفت فى وجدانهم مشاعر الوطنية لتحل محلها أفكار أخرى إن لم تكن مناقضة للوطنية ، فإنها لاتدعمها. تعاقبت الأجيال وفى كل جيل كانت مصادر التنشئة الوطنية تتراجع حتى جاء زمن نسى فيه الشباب علم بلادهم ونشيدها الوطنى ولم يتذكروهما إلا قبل سنوات قليلة حينما أقيمت بطولة إفريقيا فى كرة القدم. ومرت عقود من الزمن ضن فيها الفن المصرى أن يجود بشى من الأغنيات الوطنية أو الأعمال الفنية التى تبعث فى نفوس المصريين شيئا من الاعتزاز ببلادهم. ومنذ عقود ونحن لا نجد إلا تلك الأغنيات القديمة نرددها حين نحتاج إلى شيء من التذكير بالوطن. ومع تراجع تلك المشاعر اختفت التربية الوطنية. كانت الوطنية المتقدة فى نفوس المصريين حصنا عصمهم طويلا من الاستجابة لدعاوى الإخوان وغيرهم من الجماعات الدينية حيث الوطنية عندهم مفهوم وثنى يناقض كذبا الدين والعقيدة. وإذا كنا على أعتاب مرحلة جديدة فى تاريخنا، فإن استعادة الوطنية المصرية فى النفوس تبدو ضرورية وملحة إن لم تكن مصيرية فى زمن لا تزال الأخطار تحيط بنا من جميع الجوانب. وليس من الحكمة أن نستعيدها بأساليب الأمس ولكن استعادتها هو حجر الزاوية فى خروجنا من أزماتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. الوطنية حالة خاصة من الرومانسية تستثير الإبداع وتفجر الطاقات وتجمع جهدا إلى آخر وتدفع باتجاه أهداف واحدة ورابط قوى يجمعنا ببعضنا وبأحلامنا. لقد انزلقنا إلى مادية مقيتة وفردية شديدة الأنانية ولا مخرج منهما إلا بإعادة بناء الوجدان الوطنى للأجيال الحالية والقادمة. سوف نصطدم بطابور طويل من المؤيدين لدعم الشعور الوطنى الرافضين لوسائله. لن نبنى وجدانا وطنيا مصريا ولدينا تلك الازدواجية بين التعليم العام والأزهرى حيث المنتج الوجدانى مختلف أشد الاختلاف إن لم يكن متناقضا. فى المملكة العربية السعودية نمط من التعليم الدينى شبيه بالمعاهد الأزهرية ولكنه خاضع لوزارة التربية والتعليم فى كل شؤونه. لابد من تحقيق التناغم بين هذين النظامين وألا يدفع الوطن التكلفة الباهظة لهذه الازدواجية. الأزهريون أنفسهم لديهم حلول لذلك ولابد من الحوار لبناء وجدان مصرى صحيح. وفى التعليم الجامعى قد أفهم أن يكون لجامعة الأزهر لجان خاصة لترقية أعضاء هيئة التدريس فى علوم اللغة والفقه والتفسير والحديث وغيرها من العلوم الشرعية. أما الذى يستعصى على الفهم أن يكون لديها لجان خاصة بها للترقية فى الطب والهندسة والصيدلة والزراعة والعلوم موازية للجان المجلس الأعلى للجامعات. فى الطريق إلى بناء الوجدان الوطنى المصرى عقبات ومصالح كثيرة ولكن المقايضة على الضمير الوطنى جريمة. لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين