فقد العالم أمس الأول صوتا حنونا عاش يرعى أشواقه، كان يعتقد صاحبه أنه جاء إلى الحياة لإنقاذ فن الحكي، ولد جابراييل جارسيا ماركيز فى 16 أبريل 1927 فى بلدة أراكاتاكا شمال كولومبيا. وجاهد طويلا كما قال لكى يتخلص من صفات برج الحوت، كتب عشر روايات وخمسين قصة، حصل على نوبل سنة 1982 عن روايته الفاتنة «مائة عام من العزلة» التى باعت 50 مليون نسخة وترجمت إلى 25 لغة، وقالت عنها نيويورك تايمز إنها أول عمل أدبى بجانب موسوعة جينيس يجب على البشرية كلها قراءته، درس القانون ولم يعمل فى المحاماة، واتجه إلى الصحافة منذ 1948، التى كان يعتبرها فى مقام الرواية والسينما، وأن التحقيق الصحفى أفضل شيء فى الحياة، كان ينفى أنه شيوعى، ولكنه يسارى أقرب إلى الاشتراكية الفرنسية، لم يكن يعرف عندما كتب »مائة عام من العزلة سنة 1967 أنها ستفتح أبوابا جديدة لفن الكتابة الروائية مع ترجمتها سنة 1970، وأن »ماكندو« القرية المعزولة التى تخيلها وسط الغابات الاستوائية فى كولومبيا موجودة فى كل مكان، هى قرية تحميها ثقافتها وأساطيرها، ذهب إليها الأمريكان وحولوا الغابات إلى مزارع للموز ومصانع وسط المستنقعات، وأوصلوها إلى البحر بسكك حديدية، ليبدأ التحول الاجتماعى العنيف يدوس على كل شيء، الرواية جمعت بين الواقعية والسريالية، أطلق عليها النقاد الواقعية السحرية، ونظر إليها المتحذلقون فى الغرب على أنها عناصر خرافية استخدمها «جابى» لكى يلون حكاياته بألوان طريفة، ولكن نقاد أمريكا اللاتينية أدركوا أن صديق جيفارا وكاسترو كان يرسم صورة الواقع المنعكسة فى أذهان الناس فى بلاده، خاصة ابناء الريف أصحاب الثقافة الشعبية الذين يمارسون الحياة. فى مذكراته »عشت لأحكي« قدم درسا لكتاب الحكايات، اعتبر حياته العادية مادة للمعرفة، ستلتقى وأنت تقرؤها شخصيات قابلتها فى رواياته وقصصه، أخرجها من سياقها فى الواقع ومنحها خلودا فنيا راسخا. زوجته مرسيدس من أصول مصرية، ولدت فى بورسعيد قال «اهتمامى بمصر قديم قدم الفراعنة». رحل ماركيز الذى عاش عنوانا للموهبة والتحرر والصدق والرقة، وأخذ معه أساطيره الصغيرة التى لم يتمكن من صياغتها فى سنوات السرطان ثم الزهايمر، ولكنه زرع ما يكفى من الحكايات الشجية، وترك الأبواب العريضة التى فتحها أمام الخيال، ولا يمكن نسيان صوته الواثق أمام الأكاديمية السويدية التى منحته نوبل وهو يعلن »فى مواجهة القمع والنهب والاهمال، يكون ردنا هو الحياة، فلا السيول ولا الأوبئة ولا المجاعات ولا النكبات، ولا الحروب الدائمة التى استمرت قرنا بعد قرن، قد تمكنت من اخماد تفوق الحياة على الموت».